للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

متى يكون الفعل خاصّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم دون أمَّته؟

[السُّؤَالُ]

ـ[في بعض الأحيان يقول العلماء عن فعل فعَله الرسول عليه الصلاة والسلام إنه خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، مثل استماعه للجارية وهي تضرب على الدف، فما الدليل والضابط في هذا الموضوع؟ لأنه عندما نقول للمخالِف إن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: فما الدليل إذاً؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

ينبغي أن يُعلم أن الأصل فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه تشريع للأمة، ولا يجوز القول بأنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل صحيح يدل على ذلك؛ لقوله تعالى: (لقَدْ كاَنَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب/ ١٦، وعملاً بهذا الأصل، كان الصحابة رضي الله عنهم يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله، ولم يكونوا يسألونه هل هذا الفعل خاص به أم لا؟ ومما يدل على ذلك:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: (لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا، قَالَ: (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَهُ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا، فَإِنْ رَأَى بِهَا خَبَثًا فَلْيُمِسَّهُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا) .

رواه أحمد (١٧ / ٢٤٢، ٢٤٣) وصححه محققو المسند.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من بعض أصحابه لمَّا نسبوا فعلاً فعله صلى الله عليه وسلم للخصوصية.

فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا، وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ) ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا! قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: (وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّبِعُ) .

رواه أبو داود (٢٣٨٩) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".

قال ابن حزم رحمه الله:

"ولا يجوز أن يقال في شيء فعله عليه السلام أنه خصوص له إلا بنص في ذلك؛ لأنه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام" انتهى.

" الإحكام في أصول الأحكام " (٤ / ٤٣٣) .

وقال ابن القيم رحمه الله:

"الأصل: مشاركة أمته له في الأحكام، إلا ما خصه الدليل، ولذلك قالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها: (اخرُجْ ولا تُكَلِّمْ أحدَاً حتى تَحْلِقَ رأسك وتنحر هَدْيك) ، وعلمت أن الناس سيتابعونه" انتهى.

" زاد المعاد " (٣ / ٣٠٧) .

وسئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله:

ما الذي يبيِّن أو يثبت أن هذا الشيء خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ .

فأجاب:

"الأصل: أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عام، له، وللأمة، إلا ما دل الدليل على اختصاصه به صلى الله عليه وسلم، فالخصوصية لا بد لها من دليل؛ لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب/ ٢١" انتهى.

" المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " (٥ / ٣٦٩، السؤال رقم ٤٨٨) .

ثانياً:

من الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم: التزوج من غير مهر ولا ولي، والتزوج بأكثر من أربع، ووصال الصوم لأكثر من يوم.

قال ابن حزم رحمه الله:

"فلا يحل لأحد بعد هذا أن يقول في شيء فعله عليه السلام إنه خصوص له، إلا بنص، مثل: النص الوارد في الواهبة بقوله تعالى: (خالصةً لك من دون المؤمنين) ، ومثل: وصاله عليه السلام في الصوم، وقوله ناهياً لهم: (إني لست كهيئتكم) ، ومثل نومه عليه السلام وصلاته دون تجديد وضوء، فسُئِل عليه السلام عن ذلك، فقال: (عيناي تنامان، ولا ينام قلبي) .

فما جاء فيه بيان كما ذكرنا: فهو خصوص، وما لم يأت فيه نص كما قلنا: فلنا أن نتأسى به عليه السلام، ولنا في ذلك الأجر الجزيل، ولنا أن نترك غير راغبين عن ذلك، فلا نأثم، ولا نؤجر" انتهى.

" الإحكام في أصول الأحكام " (٤ / ٤٣٣) .

وأما حديث ضرب الجارية بالدف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: فليس خاصّاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس في الحديث ما يدل على الخصوصية.

عن بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَاّ فَلَا) فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَأَلْقَتِ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا، ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ، إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ، فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتِ الدُّفَّ) .

رواه الترمذي (٣٦٩٠) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".

وقال ابن القيم رحمه الله:

"حديث صحيح، وله وجهان:

أحدها: أن يكون أباح لها الوفاء بالنذر المباح؛ تطيباً لقلبها؛ وجبراً، وتأليفاً لها على زيادة الإيمان، وقوته، وفرحها بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أن يكون هذا النذر قربة لما تضمنه من السرور والفرح بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم سالماً، مؤيداً، منصوراً على أعدائه، قد أظهره الله، وأظهر دينه، وهذا من أفضل القُرَب، فأُمرت بالوفاء به" انتهى.

" إعلام الموقعين عن رب العالمين " (٤ / ٣٢٠) .

وقال العراقي في "طرح التثريب" (٦/٥٦) :

"وقد يقترن بالضرب بالدف قصد جميل كجبر يتيمة في عرسها، وإظهار السرور بسلامة من قد يعود نفعه على المسلمين، ومن ذلك: ضرب هذه المرأة بالدف، فهو مباح بلا شك" انتهى.

وقال زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (٤/٣٤٤) :

"وضرب الدف مباح في العرس والختان وغيرهما مما هو سبب لإظهار السرور كعيد وقدوم غائب.... وذكر حديث الجارية المتقدم" انتهى.

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (٤/٩٣) تعقيباً على حديث الجارية: "وهذا نص في إباحة الغناء عند قدوم غائب تأكيداً للسرور" انتهى.

فأنت ترى هؤلاء العلماء أباحوا الضرب بالدف لقدوم غائب، لا سيما إذا كان هذا الغائب كثير النفع للمسلمين.

ولكن تبقى هذه الإباحة مقيدة بالضرب بالدف فقط، ولا تشمل غيره من الآلات الموسيقية، ومقيدة بالأحوال التي وردت فيها فقط. وينظر في ذلك جواب السؤال رقم (٢٠٤٠٦) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>