للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ليس كل حرام يباح للحاجة؟

[السُّؤَالُ]

ـ[أعرف أن من الأمور ما تكون حراماً ثم لظروف معينة تصير حلالاً بدافع الضرورة، وقد وجدتُ رجلاً واسع العلم يقول لي: إن الحرام ينقلب حلالاً بدافع الحاجة أيضاً، فهل هذا حقيقي؟ وإلى أي مدى؟ وما هي شروط تحقيق ذلك؟ وأنا أسأل ذلك لما نواجهه في البلدان غير الإسلامية.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

سبق الكلام على قاعدة "إباحة المحرم للضرورة" وبيان شروط ذلك في جواب السؤال رقم (١٣٠٨١٥) .

أما إباحة المحرم للحاجة، فهذا صحيح، وله أمثلة جاء بها الشرع، وسيأتي ذكر بعضها إن شاء الله.

والفرق بين الحاجة والضرورة: أن الضرورة ما يلحق الإنسان ضرر بعدمه، ولا يوجد غيره يقوم مقامه. وأما الحاجة فهي ما يلحق الإنسان بتركه مشقة، وقد يقوم غيره مقامه.

وقد ذكر العلماء شرطاً لإباحة المحرم للحاجة، وهو:

أن يكون هذا المحرم محرماً تحريم الوسائل، لا المقاصد.

وذلك أن المحرمات نوعان:

الأول: محرم تحريم مقاصد، كأكل الميتة، وشرب الخمر، فهذا لا يباح للحاجة، وإنما يباح للضرورة.

النوع الثاني: محرم تحريم وسائل، كلبس الحرير، وربا الفضل ... فهذا يباح للحاجة.

قال أبو عبد الله الزركشي رحمه الله:

فالضرورة: بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب كالمضطر للأكل، واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم.

والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرَّم.

"المنثور في القواعد" (٢/٣١٩) .

ومثال ذلك: جواز لبس الرجل لثوب حرير من أجل حكة به. وقد جاءت السنة بذلك.

مثال آخر: إباحة ربا الفضل للحاجة، فقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر كيلاً، مع أن الأصل تحريم هذه المعاملة، لأنه لا يمكن حصول التساوي بين الرطب والتمر، لأن الرطب ينقص إذا جف، فتكون هذه الصورة داخلة في ربا الفضل، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص فيها للحاجة.

انظر: "إعلام الموقعين" (٢/١٣٧) .

وقد نظم ذلك القول والمثال: الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في منظومته في أصول الفقه وقواعده، فقال:

لكنَّ ما حُرِّمَ للذَّرِيعَةِ ... يَجُوزُ للحَاجَةِ كَالعَريَّةِ

وقد شرح ذلك بقوله:

"هذا مستثنى من قوله: (وكل ممنوع فللضرورة يباح) لأن ظاهره أنه لا يباح المحرم إلا عند الضرورة، فاستثنى من ذلك ما كان محرماً للذريعة، فإن حكمه حكم المكروه، يجوز عند الحاجة.

مثاله: العَرِيَّة وهي: عبارة عن بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، وأصل بيع الرطب بالتمر حرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع التمر بالرطب فقال: (أينقص إذا جف؟) قالوا: نعم، فنهى عن ذلك.

ووجهه: أن بيع التمر بالتمر لابد فيه من التساوي، ومعلوم أن الرطب مع التمر لا يتساويان، فإذا كان هذا الفلاح عنده الرطب على رؤوس النخل، وجاء شخص فقير ليس عنده دراهم يشتري رطباً يتفكه به مع الناس، لكن عنده تمر من العام الماضي، فلا حرج أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة لأنه ليس عنده دراهم، ولو باع التمر أولاً ثم اشترى رطباً ففيه تعب عليه، وربما ينقص ثمن التمر، فيجوز له أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة بشروط:

١- أن لا يتجاوز خمسة أوق.

٢- وأن لا يدع الرطب حتى يتمر.

٣- وأن يكون الرطب مخروصاً بما يؤول إليه تمراً، مثل أن يقال: هذا الرطب إذا صار تمراً صار مماثلاً للتمر الذي بذله للمشتري.

٤- وأن لا يجد ما يشتري به سوى هذا التمر.

٥- وأن يكون الرطب على رؤوس النخل، لئلا يفوته التفكه شيئاً فشيئاً.

فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يبيع التمر ويشتري الرطب كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء، وأراد تمراً جيداً أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمراً جيداً، فلماذا نقول بالعَرِيَّة، ولا نقول: بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطباً؟

فالجواب على هذا: أولاً: أن السنة فرقت بينهما، وكل شيء فرق الشرع فيه فإن الحكمة بما جاء به الشرع، لأننا نعلم أن الشرع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين متفرقين، وما فرق الشرع بينهما وظننا أنهما متماثلان، فإن الخطأ في فهمنا، فيكفي أن نقول: جاء الشرع بحل هذا ومنع هذا، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلاً عن هذا، فيقال: إن الصحابة رضي الله عنه كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل، وهذا ربا صريح لا يحل.

أما في مسألة العَرِيَّة فيجب أن يخرص الرطب بحيث يساوي التمر لو أتمر، بمعنى: أننا نخرص الرطب بحيث يكون هذا الرطب إذا يبس وصار تمراً على مقدار التمر الذي اشترى الرطب به.

ثانيا: أن نقول: إن ربا الفضل إنما حُرم لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة، وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين متماثلين جنساً ووصفاً، بل لابد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل، وتتشوف النفوس إلى زيادة الدين إذا تأجل، وتقول النفس: إذا كانت الزيادة تجوز لطيب الصفة، والنقص يجوز لرداءة الصفة، فلتجز الزيادة لزيادة المدة بتأخير الوفاء، فترتقي النفس من هذا إلى هذا، والنفس طماعة لا سيما في البيع والشراء، ولا سيما مع قلة الورع كما في الأزمنة المتأخرة، لذلك سُدَّ الباب، وقيل: لا يجوز ربا الفضل، ولو مع التقابض في المجلس.

والذي يمكن أن يقع في العرية هو ربا الفضل، وتحريم ربا الفضل علمنا من التقرير الذي ذكرناه أنه إنما يحرم لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة، والذي حرم لكونه ذريعة فإنه يباح عند الحاجة.

فإن قال قائل: الفقير الذي لا دراهم عنده ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر؟

الجواب: ليس هناك ضرورة، لأنه يمكن أن يعيش على التمر، لكن هناك حاجة، يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس، فلهذا رخِّص له في العرية.

مثال آخر: النظر إلى وجه المرأة الأجنبية حرام، لأنه وسيلة إلى الفاحشة، ولهذا جاز للحاجة، فالخاطب يجوز أن يرى وجه مخطوبته، والشاهد إذا أراد أن يعرف عين المرأة المشهود عليها، يجوز أن يرى وجهها ليشهد على المرأة بعينها، لأن التحريم هنا تحريم وسيلة، وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة.

مثال آخر: الحرير على الرجال حرام، لأنه وسيلة إلى أن يتخلق الرجل بأخلاق النساء من الليونة والرقة، والتشبه بالنساء حرام، فلما كان تحريمه تحريم وسيلة جاز عند الحاجة، فإذا كان الإنسان فيه حكة يجوز أن يلبس الحرير من أجل أن تبرد الحكة، لأن تحريمه تحريم وسائل" انتهى.

"شرح منظومة أصول الفقه وقواعده" (ص ٦٤ – ٦٧) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>