تبين له أن شيخه يتعامل مع الجن
[السُّؤَالُ]
ـ[شاب يدرس عند شيخ يتعامل مع الجن لعلاج الملموسين والملموسات والمسحورين والمسحورات، وقد علم الشاب بذلك متأخرا، فهل يقطع دراسته عند هذا الشيخ ويترك المكان؟ مع العلم أن دراسته على وشك الانتهاء، وهذه الدراسة في العلوم الشرعية والقرآن. وما حكم تدريس القرآن لهذا الشاب الذي يشرف عليه هذا الشيخ؟ وما حكم الصدقة التي يأخذها هذا الطالب من هذا الشيخ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
معاملة الجن خطرٌ عظيم، وبابٌ من أبواب الشر والفساد، طالما أصاب الناس من شره وآفته، وحسبك في ذلك أن الشرك لم يدخل على الناس إلا من طريقهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - مُخبرا عن تعليم الله عز وجل عباده بقوله -: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) رواه مسلم (٢٨٦٥)
وإن كان في الجن من المؤمنين والمسلمين كما فيهم من الكافرين الفاسقين، غير أن احتجابهم عن الإنسان يحول دون الاطمئنان إلى أي منهم، ويوجب الخوف من استدراجهم، خاصة مع انتشار الجهل واشتهار البدع التي هي بريد الشرك، فغالبا ما توقع هذه المخلوقات الإنسان فيما يحرم، ثم لا تنفعهم أيضا إلا يسيرا.
وقد قال الله عز وجل: (وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن/٦
لذلك كانت فتاوى أهل العلم بحرمة التعاطي مع الجن والتعامل معهم مطلقا – سواء في ذلك المؤمن منهم والكافر – وضرورة عدم التساهل في ذلك، سدا لباب الفتنة والريبة، ورعاية لقلوب الناس التي تملؤها الفطرة الإيمانية.
جاء في "الإنصاف" للمرداوي (١٠/٣٥١) :
" قوله: (فأما الذي يُعَزِّمُ على الجن، ويزعم أنه يجمعها فتطيعه: فلا يكفر ولا يقتل، ولكن يعزر) فعلى المذهب: يعزر تعزيرا بليغا لا يبلغ به القتل على الصحيح من المذهب، وقيل: يبلغ بتعزيره القتل " انتهى باختصار.
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (١٤/١٨) :
" أما الاستعانة بغير الله، فإما أن تكون بالإنس أو الجن: فإن كانت الاستعانة بالجن فهي ممنوعة، وقد تكون شركا وكفرا، لقوله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن/٦ " انتهى.
ويقول الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (تحت حديث رقم/٢٧٦٠) :
" ومن هذا القبيل معالجة بعض المتظاهرين بالصلاح للناس بما يسمونه بـ " الطب الروحاني "، سواء كان ذلك على الطريقة القديمة من اتصاله بقرينه من الجن - كما كانوا عليه في الجاهلية - أو بطريقة ما يسمى اليوم باستحضار الأرواح، ونحوه عندي " التنويم المغناطيسي "، فإن ذلك كله من الوسائل التي لا تُشرع؛ لأن مرجعها إلى الاستعانة بالجن التي كانت من أسباب ضلال المشركين كما جاء في القرآن الكريم: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن/٦، أي: خوفا وإثما.
وادعاء بعض المبتلين بالاستعانة بهم أنهم إنما يستعينون بالصالحين منهم دعوى كاذبةٌ؛ لأنهم مما لا يمكن - عادة - مخالطتهم ومعاشرتهم، التي تكشف عن صلاحهم أو طلاحهم، ونحن نعلم بالتجربة أن كثيرا ممن تصاحبهم أشد المصاحبة من الإنس، يتبين لك أنهم لا يصلحون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) التغابن/١٤ هذا في الإنس الظاهر، فما بالك بالجن الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف/٢٧ " انتهى.
وقد سبق في موقعنا نقل فتاوى أخرى لأهل العلم في هذا الموضوع في أجوبة الأسئلة الآتية: (١٠٥١٨) ، (١١١١٤) ، (٧٨٥٤٦)
ثانيا:
أول ما ينبغي لطالب العلم في طلبه تخير العلماء الثقات، أهل الديانة والأمانة والورع، فلا يحمل العلم إلا عَمَّن يؤخذ عنه بحقه، وحقه العمل به بطاعة الله والتزام شرعه وأمره، فإن للمعلم أكبر الأثر في نفس الطالب المتعلم، ولا بد أن يتزين ذلك بتقوى الله عز وجل.
عن إبراهيم النخعي قال:
" كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه " انتهى. "الجامع لأخلاق الراوي" (١/١٢٧)
وقد ذكر العلماء ذلك فيما ينبغي على متعلم القرآن الكريم خاصة.
يقول النووي رحمه الله في "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص/١٣) :
" ولا يتعلم إلا ممن تكملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، واشتهرت صيانته، فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف: هذا العلم دين، فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم " انتهى.
وقال الزرنوجي رحمه الله في "تعليم المتعلم" (ص/٧) :
" ينبغي أن يختار الأعلم والأورع واأسن، كما اختار أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان بعد التأمل والتفكر، وقال: وجدته شيخا وقورا حليما صبورا " انتهى.
ويقول ابن جماعة الكناني في كتابه "تذكرة السامع والمتكلم" (ص/١٣٣) :
" ينبغي للطالب أن يقدم النظر، ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته، وتحققت شفقته، وظهرت مروءته، وعرفت عفته، واشتهرت صيانته، وكان أحسن تعليما، وأجود تفهيما.
ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل، فعن بعض السلف: " هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفعَ يحصل غالبا، والفلاحَ يُدرِك طالبًا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيبٌ وافر، وعلى نصحه للطلبة دليل ظاهر.
وكذلك إذا اعتبرت المصنفات، وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر، والفلاح بالاشتغال به أكثر " انتهى.
ثالثا:
فالنصيحة لهذا الطالب أن يترك ذلك المعلم الذي يستخدم الجن – إن ثبت ذلك عنه يقينا -، ولا يأخذ عنه شيئا من العلم أو الخلق أو الدين، فذلك أحوط لدينه ونفسه، وأبرأ لذمته، إن كان بمقدوره أن يعوض ما فاته، ويكمل دراسته عند شيخ من أهل السنة والاستقامة.
وأما إن كان لا يوجد في بلده من أهل الاستقامة من يقوم له بذلك، فالذي نراه أنه يكمل القدر اليسير المتبقي له من دراسته، إذا كان الحال ما ذكر من أنه إنما يستخدم الجن في علاج المسحورين أو المرضى، ولم يعرف عنه أنه يعمل بالسحر أو أذى المسلمين، أو العدوان على أموالهم أو أعراضهم، والقاعدة عند أهل العلم أنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء؛ فنحن، وإن كنا نمنع ابتداء أن يتعلم الطالب على شيخ من أهل البدع، أو ممن يظهر عليه انحراف في علمه أو عمله، ففي مثل حال السائل، يرخص له في استمراره في هذه الدراسة حتى ينتهي، لا سيما إن كان القدر المتبقي يسيرا، ولا سيما ـ أيضا ـ إن كان في بلد يعز عليه أن يجد بديلا من أهل الاستقامة والسنة.
على أنه يؤيد ما ذكرناه هنا ـ أيضا ـ أن هذا الشيخ ربما كان يأخذ بقول من يقول بجواز استعمال الجن في الأمور المباحة، كالتي ذكرت في السؤال، فيكون متأولا معذورا، لا نستطيع أن نبدعه أو نضلله.
وهذا القول، وإن كان قال به بعض علماء أهل السنة، إلا أن الصواب هو ما ذكرناه أولا، من المنع من استخدام الجن مطلقا. لكن الراجح في المسألة شيء، وأعذار المتأولين شيء آخر.
رابعا:
نصيحتنا في شأن الصدقة أيضا الاستغناء عنها، والسعي الدائم إلى تحصيل العيش من كسب اليد، من غير تقصير في طلب العلم ولا انهماك في طلب الرزق، بل يكون معتدلا، يتكفف عما في أيدي الناس، ويجتهد في تعلم مسائل الدين، وبذلك ينال رضى الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ) رواه مسلم (٢٦٩٩)
لكن إن أعوزت الطالب الحيلة، واضطر إلى الصدقة التي يعطيه إياها هذا المعلم، فلا حرج عليه إن شاء من قبولها وأخذها.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب