هل تغير لفظ الحديث أو الرواية عند النقل؟
[السُّؤَالُ]
ـ[عندما نقل البخاري الأحاديث بسند صحيح كان هناك احتمال بأن الأحاديث تغيرت ألفاظها عند النقل من راو إلى آخر. أرجو منكم أن توضحوا كيف تعرفون أن رواية الأحاديث لم تتغير، وأن البخاري جمعها بعد ١٨٠هـ سنة تقريبا من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
في التمهيد للجواب عن هذا السؤال لا بد من التذكير بأن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتغيير، ومقتضى ذلك أيضا أن يحفظ الحق سبحانه وتعالى مجمل السنة - التي هي شارحة للقرآن ومبينة لمعناه - من التبديل والتغيير العام.
قال الله تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/٩.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله:
" فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه: فهو غير ضائع أبدا، لا يشك في ذلك مسلم، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي، بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم/٣، ٤. والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص؛ فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز وجل ضرورة، منقول كله إلينا لا بد من ذلك ". انتهى. "الإحكام في أصول الأحكام" (٢/٢٠١) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" ولكن هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله، كما قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فما في تفسير القرآن، أو نقل الحديث، أو تفسيره، مِن غلط: فإن الله يقيم له من الأمة مَن يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة، إذ كانوا آخر الأمم، فلا نبي بعد نبيهم، ولا كتاب بعد كتابهم " انتهى.
" الجواب الصحيح " (٣/٣٨-٣٩)
وقال أيضا رحمه الله:
" فما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة محفوظ " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (٢٧/١٦٩) ، ونحوه في " جامع المسائل " (٤/١٦٢)
وقال الشيخ المعلمي رحمه الله:
" (الذِّكْر) يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة، والهداية دائمة إلى يوم القيامة؛ لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا وانقطاع لعلة بقائهم فيها " انتهى.
" التنكيل " (١/٢٣٤)
وقد علق الملا علي القاري في " شرح نخبة الفكر " (ص/٤٤٦) لما قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة! قال: يعيش لها الجهابذة - أي نقاد الحديث وحذاقهم -، قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) انتهى. وكأنه أراد أنه من جملة حفظ لفظ الذكر حفظُ معناه، ومن جملة معانيه: الأحاديث النبوية الدالة على توضيح مبانيه، كما قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) ففي الحقيقة تكفّل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة " انتهى.
ثانيا:
نحن لا ننفي أن ثمة من روايات الحديث ما روي بالمعنى، وما تصرف فيه بعض الرواة، ولكننا نقطع بأن هذا التغيير إنما كان بقدر يسير لا يغير المعنى، بل يحافظ على المضمون، ولا يؤثر على حجية السنة الصحيحة واعتقاد نسبة مضمونها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأوجه كثيرة جدا، تحتاج إلى دراسة مستقلة مفصلة في بيانها والاستدلال عليها ونقل تقريرات العلماء لها، ولكننا نجمل بعضها في الأسباب الآتية:
١-العصمة التي تكفل بها رب العزة، أن يحفظ هذا الدين العظيم القائم على الكتاب والسنة الصحيحة، وقد سبق بيان ذلك.
٢-تفاني الصحابة رضوان الله عليهم في حفظ العلم والدين، والتلقي عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وتبليغ كلامه للناس، وقد بدا هذا التفاني في مظاهر كثيرة، وصور جليلة عظيمة، كان منها أن بعض الصحابة رحل مسيرة شهر لسماع حديث واحد.
٣-تفاني التابعين ومن بعدهم في حفظ الحديث وروايته وكتابته والرحلة في طلبه، وهذا أيضا بحر لا ساحل له، فكم أفنيت فيه من أعمار، وأنفقت فيه من أموال، وسطرت فيه من كتب، وما مئات الكتب المعروفة اليوم باسم كتب الرجال والتراجم إلا نقطة يسيرة في ذلك البحر الواسع، ولا شك أن هذا التفاني سياج يحمي السنة من التحريف والتبديل والضياع.
٤-كتابة السنة النبوية بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن بدايتها على يد البخاري رحمه الله، بل كان دور البخاري الجمع والانتقاء والترتيب فقط، والدليل على ذلك حديثان صحيحان: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) رواه أبو داود (٣٦٤٦) ، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث لرجل أُمَّيٍّ من أهل اليمن يُدعى " أبو شاه "، حيث جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ) رواه البخاري (٦٨٨٠) ومسلم (١٣٥٥) .
وقد جاء بالأسانيد الصحيحة تسمية العشرات من الصحابة رضوان الله عليهم ممن كَتَب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اشتهرت بعض الصحف التي تحوي عشرات الأحاديث شهرةً واسعةً: كصحيفة أبي بكر في فرائض الصدقة، وصحيفة علي بن أبي طالب، والصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو، وصحيفة جابر بن عبد الله، والصحيفة الصحيحة التي يرويها همام عن أبي هريرة من حديثه، وأكثر هذه الصحف الحديثية مروية في صحيح البخاري، يسوقها رحمه الله بسنده إليها، والرواة من التابعين والأئمة من بعدهم إنما كانوا ينقلون من كتبهم وصحفهم، ولم يكونوا يكتفون بالحفظ من غير تدوين، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو جبل الحفظ والإتقان، كان لا يروي حديثا إلا من كتابه، وكان عبد الرزاق الصنعاني يقول لتلميذه يحيى بن معين: اكتب عني حديثا واحدا بلا كتاب، فقال: لا، ولا حرفا.
ومن توسع في الاطلاع على كتب الرجال تبين له أن عمل الإمام البخاري رحمه الله إنما هو عمل الناقل الناقد، وليس عمل المدون لما هو محفوظ في الصدور فقط، وهذه مسألة خطيرة مهمة، غفل - أو تغافل - عنها كثير من الناس، فمن أراد الاطلاع على جميع ما ورد فيها فليرجع إلى ثلاثة كتب مهمة هي: " تقييد العلم " للخطيب البغدادي، " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، " دراسات في الحديث النبوي " لمحمد مصطفى الأعظمي. قال الدكتور حاكم المطيري حفظه الله: " وقد ذَكَرت كثيرٌ من المصادر التاريخية أسماء كتب كثيرة في الحديث النبوي، وذكرت أسماء مؤلفيها، وهم من علماء القرن الأول الهجري، وكانت هذه الكتب متداولة بين علماء القرنين الثاني والثالث الهجريين " انتهى. نقلا من كتابه الرائع " تاريخ تدوين السنة النبوية وشبهات المستشرقين " (ص/١١٣) ، وهو من أعظم الكتب التي تشرح حقيقة وجود مؤلفات في الحديث النبوي منذ القرن الأول، وترد على شبهات المستشرقين في دعواهم تحريف السنة النبوية.
٥-الرواية بالمعنى - وإن كانت واقعة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم - إلا أن المحدثين اشترطوا لقبولها أن يكون الراوي عالما باللسان العربي، عالما بما يحيل المعاني ويُغَيِّرُها، ولم يكونوا يقبلون من كل راو روايته بالمعنى، فضلا عن أن كثيرا من الرواة والأئمة لم يكونوا يستحلون الرواية بالمعنى، بل يأخذون أنفسهم بالأشد، وهو أداء اللفظ كما هو، منهم عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن محمد، ومحمد بن سيرين، ورجاء بن حيوة، وأبي معمر الأزدي، وعبد الله بن طاوس، ومالك بن أنس، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم.
٦-ثم إن تعدد طرق الحديث الواحد من أهم ما يساعد على تدقيق أقرب الألفاظ إلى اللفظ النبوي الصحيح، فقد يسر الله عز وجل للسنة النبوية تعدد الأسانيد والطرق التي تؤدي الحديث الواحد، وهذه ثروة يمكن الاستفادة منها في الدراسة والمقارنة ك نصل إلى أقرب الألفاظ الصحيحة.
٧-كما أن علم " نقد الحديث " المسمى بعلم " العلل " من أهم العلوم الإنسانية التي أبدع فيها النقاد والمحدثون لتمييز الصواب من الخطأ في الروايات، وقد سطر فيه العلماء آلاف الصفحات، ملؤوها بالحكم على الروايات ودراستها وتمييز الصحيح من الضعيف منها، وهذا أيضا من أهم عوامل حفظ السنة النبوية من التغيير والتبديل.
٨- ومما يخفى على كثير من الناس في هذا الشأن أن تعدد روايات الحديث الواحد في كثير من الأحيان لا يكون بسبب الرواة، بل يكون بسبب تنوع ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بين الحين والآخر، فقد كان كثيرا ما يحدث بالحديث في أكثر من مجلس، فيروي كل صحابي ما سمعه في ذلك المجلس، كما قد يكون السبب هو تكرر الحادثة في أكثر من مناسبة، فيروي كل صحابي إحدى تلك المناسبات، وللاطلاع على أمثلة ذلك يمكن مراجعة رسالة صغيرة بعنوان: " أسباب تعدد الروايات في الحديث النبوي الشريف " للدكتور شرف القضاة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب