لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخافون من ربهم مع تبشيرهم بالجنة؟
[السُّؤَالُ]
ـ[لماذا كان الصحابة المبشَّرون بالجنة يخافون الله أشد الخوف، على الرغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرهم بالجنة، بل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان أخوفهم؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير هذه الأمة وأفضلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ومِن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنَّة , وما اتفق عليه أهل السنَّة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال، والأقوال، والاعتقاد , وغيرها من كل فضيلة: أن خيرها: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه , وأنهم أفضل من الخلَف في كل فضيلة، من علم وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة , وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا مَن كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام , وأضله الله على علم، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " مَن كان منكم مستنّاً فليستنَّ بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ".
وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: " هم فوقنا في كل علم، وعقل، ودين، وفضل، وكل سبب ينال به علم، أو يدرك به هدى ".
" مجموع الفتاوى " (٤ / ١٥٧، ١٥٨) .
ثانياً:
عبادة الله تعالى تتضمن الخوف، والرجاء، والمحبة له سبحانه تعالى؛ وهذا هو كمال الإيمان.
قال ابن القيم رحمه الله:
وسبب هذا: اقتران الخوف من الله تعالى بحبِّه، وإرادته , ولهذا قال بعض السلف: " مَن عبد الله تعالى بالحب وحده: فهو زنديق , ومن عبده بالخوف وحده: فهو حروري – أي: من الخوارج - , ومن عبده بالرجاء وحده: فهو مرجئ , ومن عبده بالحب والخوف والرجاء: فهو مؤمن.
وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه) الإسراء/ ٥٧، فابتغاء الوسيلة هو محبته، الداعية إلى التقرب إليه، ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف , فهذه طريقة عباده، وأوليائه.
" بدائع الفوائد " (٣ / ٥٢٢) .
ثالثاً:
لا يستغرب أن يكون الصحابة أشد الناس خوفاً من الله، فكلما ازداد العبد إيماناً: ازداد خوفه من الله، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على أنبيائه، ورسله بهذه الصفة، قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) الأحزاب/ ٣٩،
وقال عن الملائكة الكرام: (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء/ ٢٨، وقال: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل/ ٥٠.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِالمَلإ الأَعْلَى وَجِبْريلُ كَالحِلْسِ البَالِي ِنْ خَشْيَةِ الله عزَّ وَجَلَّ) رواه الطبراني في " الأوسط " (٥ / ٦٤) ، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (٢٢٨٩) .
والحلس البالي: الثوب البالي.
وهكذا كان حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال عن نفسه: (إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) رواه البخاري (٢٠) ومسلم (١١٠٨) .
قال ابن القيم رحمه الله:
والمقصود: أن الخوف من لوازم الإيمان، وموجباته، فلا يتخلف عنه، وقال تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المائدة/ ٤٤ , وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) الأنبياء/ ٩٠، فالرغَب: الرجاء , والرغبة، والرهَب: الخوف، والخشية.
وقال عن ملائكته الذين قد أمَّنهم من عذابه: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل/ ٥٠، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) ، وفي لفظ آخر: (إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي) – رواه مسلم -، وكان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء – رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " -.
وقد قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/ ٢٨، فكلما كان العبد بالله أعلم: كان له أخوف، قال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علماً.
ونقصان الخوف من الله: إنما هو لنقصان معرفة العبد به؛ فأعرف الناس: أخشاهم لله , ومن عرف الله: اشتد حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له , وكلما ازداد معرفة: ازداد حياء، وخوفاً، وحبّاً، فالخوف من أجلِّ منازل الطريق , وخوف الخاصة: أعظم من خوف العامَّة , وهم إليه أحوج، وهم بهم أليق، ولهم ألزم.
" طريق الهجرتين " (٤٢٣، ٤٢٤) .
فعلى ذلك فلما كان الصحابة أعلم، وأتقى لله، وأعرف به: استلزم ذلك عظم خوفهم منه تعالى، مع الرجاء، والمحبة، وهكذا حال الأنبياء الذين هم أعرف، وأعلم، وأتقى لله تعالى من غيرهم من الناس.
ويمكن تلخيص أسباب خوف النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام ممن بشِّر بالجنة، بما يلي:
١. أنهم عرفوا معنى عبادة ربهم تعالى، وكان خوفهم من الله تعالى هو تحقيق لركن من أركانها، مع تحقيق ركني الرجاء، والمحبة.
٢. أنهم كانوا علماء بالله تعالى، ومن كان بالله أعلم كان منه أخوف.
٣. بحثاً عن مزيد ثواب، وعظيم أجر، من ربهم تعالى، قال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن/ ٤٦.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الخوف، والرجاء، والمحبة.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب