بري أمك، ولا تعقي أباك؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[أرجو حقّاً أن تقدم لي المشورة والرأي السديد في أمرٍ سأعرضه عليك، ولا يخفى ما لرأيك ومشورتك من جميل الأثر، وعظيم النفع بإذن الله. أنا يا شيخ من جدة، طالبة بالتربية العلمية، قسم الفيزياء، عمري ٢٠ سنة، وأرجو أن تكون هذه السنوات في طاعة الله، في العادة – يا شيخ - إذا استعصى عليَّ أمر ولم أجد حلاًّ له بنفسي، أستشير والدي وهو أكثر من صديق مقرب إلى قلبي حفظه الله وحفظك، لكن في هذا الأمر بالذات لم يكن هذا وارداً، ولا جزءً من خياراتي. المشكلة باختصار في رضى والدي الاثنين، أستطيع أن أقول إن رضى أبي هو هدفي في الحياة، بعد عبادة الله، لكن ماذا أفعل – يا شيخ - إذا كان أكثر ما يجعله عني راضياً هو مقاطعة والدتي تماماً؟ ! ، وماذا أفعل إذا كانت والدتي تحلم باليوم الذي نقاطع فيه أبانا؟! . إلى الآن اخترت أنا والدي، والتزمت الصمت، أخوتي حاولوا الجمع بين برِّهما، ووصلهما، لكن لا أبي راضٍ، ولا أمي راضية. الموضوع – يا شيخ - أن والدايَّ انفصلا منذ كنت في الرابعة من عمري، ومن يومها ما رأيت أمي قط، ولا حدثتها، وفي بداية هذه السنة حدث تواصل بينها وبين أخوتي، وبدأت دخول حياتهم شيئاً فشيئاً، عندما اكتشف والدي الأمر أحس بصدمة، وشعر بخيانة، طيلة هذه السنين لم يتزوج، ولم يخرج يوماً مع رفاق، أو أصدقاء، ربَّانا أنا وأخوتي الثلاثة وحده، لا عمتي وقفت بجانبه ولا خالة، والله كانت تمر علينا السنة والسنتان والثلاث وما يسأل عنا من أهلنا أحد. والآن: أقولها بالعامية (يا كثر المشاكل اللي صارت بين إخواني وأبوي) أحس فعلا ما عاد يطيق وجودهم، وإلى الآن أمي لم تحاول رؤيتي في الجامعة، أو لم تحاول حتى محادثتي على جوالي، أستغرب هذا الشيء، لكن ربما سهلت عليَّ الاختيار، حاجتي لأمي لا تخفى على أي عاقل، هذا شي مفروغ منه، لكنِّي حقّاً كبرت، وتمَّت تربيتي بأحسن أسلوب، وما أشعر أني بحاجة لوجودها، فلماذا أجعلها تؤثر على علاقتي بوالدي؟ أعطني رأيك ياشيخ.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
بر الوالدين من الواجبات المحتمات على الأولاد، وعقوقهما من المحرَّمات القطعيات، والمؤمن يبحث عن رضا ربه تعالى بأداء ما أوجب الله تعالى عليه، وبالانتهاء عما نهاه عنه، فهو يرجو ثواب ربه، ويخاف عقابه.
ومن علامات بر الوالدين: طاعتهما، والإحسان إليهما بالقول والفعل، وعدم الإساء إليهما، ولو بقول " أف "، ولكن هذا لا يعني أنهما يطاعان بكل ما يأمران به، بل إن ذلك مقيَّد بكون أمرهما موافقاً للشرع، ولا يشتمل على محرَّم يغضب الله تعالى، فهنا لا طاعة لهما، ولو أدَّى ذلك لتنغصهما، فالمؤمن عبدٌ لربه تعالى يأتمر بأمره، وينتهي عن نهيه، وكل مطاعٍ فطاعته مقيدة بشرع الله تعالى غير مستقلة عنه.
قال الله تبارك وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) الإسراء/ ٢٣ – ٢٥.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله:
" حكم ربك يا محمد بأمره إياكم ألا تعبدوا إلا الله، فإنه لا ينبغي أن يُعبد غيره، وأمركم بالوالدين إحساناً، أن تحسنوا إليهما، وتبرّوهما " انتهى.
"تفسير الطبري" (١٧/٤١٣، ٤١٤) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله:
" أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وجعْلُه برَّ الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا: ذَكَرَه في آيات أخر، كقوله في سورة " النساء ": (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ، وقوله في البقرة (وإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ، وقوله في سورة لقمان: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ، وبيَّن في موضوع آخر أن برَّهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما، كقوله في " لقمان ": (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) ، وقوله في " العنكبوت ": (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُم) الآية.
وذِكْرُه جل وعلا في هذه الآيات برَّ الوالدين مقروناً بتوحيده جل وعلا في عبادته: يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين " انتهى.
"أضواء البيان" (٣ / ٨٥) .
ولذا فإن الواجب عليك بر والديْكِ، ويحرم عليك عقوقهما، وأمر والدك بمقاطعة والدتك: مخالف للشرع، يحرم عليك الاستجابة له، ومثله لو أمرتك والدتك بمقاطعة والدك.
وإذا كان للأب حق واحد: فللأم ثلاثة أضعاف ذلك الحق.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ: (أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ) رواه البخاري (٥٦٢٦) ومسلم (٢٥٤٨) .
قال النووي رحمه الله:
" وفيه الحث على بر الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب ثم الأقرب، فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأم: كثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته وتمريضه، وغير ذلك " انتهى.
"شرح مسلم" (١٦/١٠٢) .
ثانياً:
بإمكانك – أختي الفاضلة – بر أمك دون أن تذكري ذلك لوالدك، ودون الحاجة لأن يعرف أنك تفعلينه، وهو لا يحل له ابتداءً أن يأمرك بالابتعاد عنها، وعدم الحديث معها، ويستطيع الأولاد بحكمة أن يجمعوا بين البرَّيْن والصلتين دون الحاجة لتفضيل جانب على آخر، ودون الحاجة لإلغاء طرف على حسب طرف آخر.
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
أنا شاب أبلغ من العمر ١٨ عاماً، أؤدي الصلاة، وأعمل لنيل رضا والدي وطاعته، ولكن منذ ولادتي وحتى الآن لم أر والدتي، ولكني أعلم أين تقيم الآن، وهي بعيدة عني، والحقيقة بيَّنها لي والدي، حيث أنه طلقها، وأنا أريد رؤيتها؛ لأنها أمي، وسيحاسبني الله عليها إن لم أزرها، مع العلم بأني لم أذكر لأبي بأنني أريد أن أراها، أخاف أن أبيِّن له هذا ويغضب عليَّ، خاصة وأنه متزوج من امرأة ثانية، ولديه منها عدة أطفال، فما حكم الشرع في حالتي هذه؟
فأجاب:
" الذي نرى: أنه يجب عليك أن تزور أمك، وأن تصحبها بالمعروف، وأن تبرها بما يجب عليك برها به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل مَن أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قيل ثم مَن؟ قال: أمك، قيل ثم من؟ قال: أمك، قيل ثم من؟ قال: أبوك.
فلا يحل لك أن تقاطع أمك هذه المقاطعة، بل صلها، وزرها، ولك في هذه الحال أن تداري والدك، بحيث لا يعلم بزيارتك لأمك، ومواصلتك إياها، وبرك بها، فتكون بذلك قائماً بحق الأم، متلافياً غضب والدك " انتهى.
"فتاوى إسلامية" (٤/٢١٣) .
ِوسئل الشيخ العثيمين رحمه الله - أيضاً -:
شاب يبلغ الخامسة والعشرين من العمر، والدي ووالدتي في خصام مستمر طول أيامهما، إن بررت بالأول: غضب، ونفر الثاني، إن بررت الثاني: غضب الأول، واتهمني بالعقوق، ماذا أفعل يا فضيلة الشيخ لكي أبرهما؟ وهل أعتبر عاقّاً بالنسبة لأمي بمجرد أنني بررت بأبي أو العكس؟
فأجاب:
" الإجابة على هذا أن نقول: إن بر الوالدين من أوجب الواجبات التي تجب للبشر على البشر؛ لقول الله تعالى (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) ، وقوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) ، وقوله تعالى (إن اشكر لي ولوالديك إلى المصير) ، والأحاديث في هذا كثيرة جدّاً، والواجب على المرء أن يبر والديه كليهما: الأم والأب، يبرهما بالمال، والبدن، والجاه، وبكل ما يستطيع من البر حتى أن الله تعالى قال: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً) ، فأمر بمصاحبة هذين الوالدين المشركين اللذين يبذلان الجهد.. في أمر ولدهما بالشرك ومع ذلك أمر الله أن يصاحبهما في الدنيا معروفاً، وإذا كان ذلك كذلك: فالواجب عليك نحو والديك اللذين ذكرت أنهما في خصام دائم، وأن كل واحد منهما يغضب عليك إذا بررت الآخر، الواجب عليك أمران:
الأول: بالنسبة للخصام الواقع بينهما: أن تحاول الإصلاح بينهما ما استطعت، حتى يزول ما بينهما من الخصام والعداوة والبغضاء؛ لأن كل واحد من الزوجين يجب عليه للآخر حقوق لابد أن يقوم بها، ومن بر والديك أن تحاول إزالة هذه الخصومات حتى يبقى الجو صافياً، وتكون الحياة سعيدة.
وأما الأمر الثاني: فالواجب عليك نحوهما أن تقوم ببر كل واحد منهما، وبإمكانك أن تتلافى غضب الآخر إذا بررت صاحبه بإخفاء البر عنه، وتبر أمك بأمر لا يطلع عليه والدك، وتبر والدك بأمر لا تطلع عليه أمك، وبهذا يحصل المطلوب، ولا ينبغي أن ترضى ببقاء والديك على هذا النزاع، وهذه الخصومة، ولا على هذا الغضب إذا بررتَ الآخر، والواجب عليك أن تبين لكل واحد منهما أن بر صاحبه لا يعنى قطيعته، أي: قطيعة الآخر بل كل واحد منهما له من البر ما أمر الله به " انتهى.
"فتاوى إسلامية" (٤/١٩٦، ١٩٧) .
وانظري أجوبة الأسئلة: (٥٠٥٣) ، (٣٠٤٤) ، (٥٣٢٦) .
على أننا ننبهك ـ أيتها السائلة الكريمة ـ إلى أن تتدرجي في تنفيذ ما نصحناك به، وأن تراعي مشاعر والدك ورضاه قدر الإمكان؛ لأن أمك غائبة عنك بطبيعة الحال، ولن تتأثر بأمرك تأثر والدك به، والتي غابت عنك، أو غبت عنها نحوا من ستة عشر عاما، لن تتأثر كثيرا، بغياب يوم أو يومين، وشهر أو شهرين، ريثما تمهدي لما أنت مقدمة عليه، وتتمكني من بر إمك وإرضائها، من غير أن تغضبي أباك أو تسيئي إليه، وتذكري أن أباك ـ وفقه الله وهداه، لما يحبه ويرضاه ـ قد قام نحوكم بالدورين: دور الأب، ودور الأم؛ فحقه مضاعف، ورضاه مؤكد، والواجبات الشرعية جميعا إنما تجب على الإنسان بقدر استطاعته، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا، فاستعيني بالله أن يفتح لك أبواب الطاعة والبر، وأن يشرح صدر أباكِ.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب