للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم هل يفيد الوجوب؟

[السُّؤَالُ]

ـ[هل كل ما يأمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض؟ إن كان نعم، فكيف نوفق بين ذلك وبين الحديث الذي معناه: (ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ؟ وإن كان لا، فلماذا مثلا إطلاق اللحية فرض وليس سنة؟ .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

الأوامر الواردة في الشرع على ثلاثة أنواع:

الأول: أن يقترن بالأمر قرائن تدل على أن المراد به الوجوب والفرضية , كقوله تعالى:) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ َ) البقرة/٤٣ فقد دلت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أن الأمر بإقامة الصلوات الخمس للوجوب.

الثاني: أن يقترن بالأمر ما يدل على أنه ليس للوجوب , كقول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري (١١٨٣) : (صَلُّوا قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ , قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً) .

فقوله: (لمن شاء) دليل على أن الأمر في قوله: (صلوا قبل المغرب) ليس للوجوب.

الثالث: أن يرد الأمر مجرداً عن القرائن , وهو ما يسميه العلماء بالأمر المطلق , فلم يقترن به ما يدل على أنه للوجوب أو غيره , وحكم هذا الأمر أنه يكون للوجوب.

ولذلك يقول العلماء: " الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب ".

وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من المذاهب الأربعة.

انظر: "شرح الكوكب المنير" (٣/٣٩) .

واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، من الكتاب والسنة.

أما أدلة القرآن فمنها:

١. قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) الأحزاب/٣٦.

فجعل الله جل وعلا أمرَه وأمرَ رسوله مانعاً من الاختيار، وذلك دليل الوجوب اهـ "المذكرة" للشنقيطي (ص ١٩١) .

٢. وقوله عز وجل: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور/٦٣.

فتوعد الله تعالى المخالفين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة وهي الزيغ، أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المطلق يقتضي الوجوب اهـ "شرح الورقات" للفوزان (ص ٥٩) . وقال القرطبي (١٢/٣٢٢) : بهذه الآية استدل الفقهاء على أن الأمر للوجوب اهـ.

٣. ومن الأدلة على ذلك أيضا: قول الله سبحانه وتعالى منكراً على إبليس عدم سجوده بعد أمره بالسجود لآدم: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) الأعراف/١٢. فَقَرَّعَ إبليسَ ووَبَّخَهُ على مخالفة الأمر اهـ "الشنقيطي" (ص ١٩٢) بمعناه.

٤. وقوله سبحانه: (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) طه/٩٣. وقال عن الملائكة: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) التحريم/٦. فهو دليل على أن مخالفة الأمر معصية اهـ "الشنقيطي" (ص ١٩٢) .

٥. وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) المرسلات /٤٨. وهذا ذمٌّ لهم على ترك امتثال الأمر بالركوع، وهو دليل الوجوب اهـ "الشنقيطي" (ص ١٩١) .

وأما أدلة السنة على أن الأمر المطلق للوجوب، فكثيرة:

منها:

١. قصة بريرة لما عتقت واختارت فسخ النكاح من زوجها وكان عبدا، وكان زوجها يحبها، وكان يمشي خلفها في طرق المدينة ودموعه تسيل على خده يترضاها لترجع إليه فلم تفعل، فشفع له النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال لها: كما رواه أبو داود (٢٢٣١) يَا بَرِيرَةُ، اتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّهُ زَوْجُكِ، وَأَبُو وَلَدِكِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: لا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ. قَالَتْ: لا حَاجَةَ لِي فِيهِ. صححه الألباني في صحيح أبي داود (١٩٥٢) . ورواه البخاري (٥٢٨٣) بلفظ آخر.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإنما قالت: (أتأمرني؟) لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة اهـ الفتاوى (١/٣١٧) .

٢. ومن أدلة السنة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ) رواه البخاري (٨٨٧) ومسلم (٢٥٢) .

قال الحافظ في الفتح: فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الأَمْر لِلْوُجُوبِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدهمَا: أَنَّهُ نَفَى الأَمْر مَعَ ثُبُوت النَّدْبِيَّة , وَلَوْ كَانَ لِلنَّدْبِ لَمَا جَازَ النَّفْي.

ثَانِيهمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الأَمْر مَشَقَّة عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّق إِذَا كَانَ الأَمْر لِلْوُجُوبِ , إِذْ النَّدْب لا مَشَقَّة فِيهِ، لأَنَّهُ جَائِز التَّرْك اهـ.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب اهـ. الفتاوى (٢٢/٢٩) .

ثانياً:

لا تعارض بين هذه القاعدة: (الأصل في الأمر أنه للوجوب) وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) رواه البخاري (٧٢٨٨) ومسلم (١٣٣٧) إذ غاية ما فيه أنه قيد امتثال الأمر بالاستطاعة، وهذا من رحمة الشريعة وكمالها، وليس هذا خاصا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أمر الله تعالى مقيد بالاستطاعة كذلك، كما قال سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن/١٦، وقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) البقرة/٢٨٦.

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: " قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) : هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيها ما لا يحصى من الأحكام، كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها، أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل، غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة، فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حفظ بعض الفاتحة، أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك " انتهى باختصار.

وقد قال الله تعالى في الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام، ومن أعظم فرائضه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران/٩٧.

وبناء على ما سبق فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية وتوفيرها، يدل على الوجوب والفرضية، لأن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب، ولم توجد قرينة تصرفه عن ذلك، وانظر تفصيل الكلام على مسألة إعفاء اللحية، في جواب الأسئلة (١١٨٩) ، (٨١٩٦) ، (٤٨٩٦٠) .

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>