هل يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مهتم جدا بتعلم الإسلام، لذلك قمت مؤخرا بالبدء في قراءة صحيح البخاري للحديث، وقد لاحظت أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث قد شرع لنا أن نفعل بعض الأشياء الصادرة عن حكمه هو، وليست وحيا من الله تعالى. على سبيل المثال: أذكر الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) (رواه البخاري، ٨٨٧ ومسلم ٢٥٢) . أرجو أن تشرحوا لي إمكانية ذلك، ونحن نعلم أن كل شيء يصدر عن رسول الله صلى الله علي وسلم (أمر، أو إجازة، أو تحريم) إنما يكون وحيا من الله.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
بداية نشكر لك حرصك على تعلم الإسلام والتفقه فيه، فالعلم نور يضيء للعقل الطريق، ويفتح للقلب آفاقا من المعرفة بالله عز وجل، يهتدي بها إلى الحق الذي ينجيه بين يديه سبحانه وتعالى.
ونحن نرجو أن يسلك كل الناس هذا المسلك الذي أنت عليه، مسلك التدبر والتفكر، ثم السؤال عما يرد على أذهانهم من مسائل وإشكالات، ولو تثبت كل عاقل مما يقرأ أو يسمع دفع عن نفسه وعن الناس الجهالة والغواية.
ثانيا:
بخصوص ما سألت عنه، نقول:
يقسم العلماء ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال إلى قسمين:
القسم الأول: أقوال وأفعال صادرة بتوقيف من الوحي، وَبِأَمْرٍ من الرب سبحانه وتعالى، يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيها مبلغا ناقلا أمينا، يأمر بما أمر الله به، ويمتثل ما أوحي إليه من ربه عز وجل. وهذا القسم هو الغالب على أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: أقوال وأفعال صادرة عن رأي النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فيها مبلغا ولا ناقلا، وإنما مشرِّعًا مجتهدا، بناء على ما خوله الله عز وجل من التشريع والحكم بين الناس، والله عز وجل يقره على ذلك، إلا في بعض الحالات التي كان في اجتهاده صلى الله عليه وسلم شيء من الخطأ، فحينئذ ينزل الوحي من عند الله عز وجل بتصويب ذلك، وبهذا تبقى العصمة التامة لجميع ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا كان مبلغا لما أوحى الله إليه: فالعصمة حاصلة ابتداء.
وإذا كان مجتهدا في حكمه صلى الله عليه وسلم: فالعصمة حاصلة انتهاء.
قال الشاطبي رحمه الله:
" الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة.
وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإذا فُرِّعَ على القول بجواز الخطأ في حقه، فلا يُقَرُّ عليه البتة، فلا بد من الرجوع إلى الصواب، والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه " انتهى.
" الموافقات " (٤/٣٣٥)
وقال الشوكاني رحمه الله:
" يجوز – الاجتهاد - لنبينا صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء، وإليه ذهب الجمهور، واحتجوا:
١- بأن الله سبحانه خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم كما خاطب عباده، وضرب له الأمثال، وأمره بالتدبر والاعتبار، وهو أجل المتفكرين في آيات الله، وأعظم المعتبرين.
وأما قوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فالمراد به القرآن؛ لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر، ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان متعبدا بالاجتهاد وبالوحي لم يكن نطقا عن الهوى، بل عن الوحي.
٢- وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضا للخطأ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى.
٣- ويدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، فعاتبه على ما وقع منه، ولو كان بالوحي لم يعاتبه.
٤- ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) أي: لو علمت أولا ما علمت آخرا ما فعلت ذلك، ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صلى الله عليه وسلم بالوحي.
٦- وأمثال ذلك كثيرة: كمعاتبته صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض) الأنفال/٦٧، وكما في معاتبته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) الأحزاب/٣٧.
إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز.
والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل، وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك، ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع أو التوقف لأجلها " انتهى، مختصرا.
" إرشاد الفحول " (٤٢٧-٤٢٩)
وقال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله:
" الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه، كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم، وكأسره لأسارى بدر [وأخذ الفداء منهم] ، وكأمره بترك تأبير النخل، وكقوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... ) الحديث. .إلى غير ذلك.
وأن معنى قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى، ولا يتكلم بالهوى، وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى) يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله، لا بهوى، ولا بكذب، ولا افتراء، والعلم عند الله تعالى " انتهى.
" دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " (ص/٢٢٤) ، وانظر: " مذكرة أصول الفقه " (ص/٦٠)
ثالثا:
فإذا تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما صدر عنه القول أو الفعل عن رأي منه واجتهاد، ثم يقره الوحي عليه فيسكت عنه أو يؤيده، ونادرا ما كان الوحي يأتي بتصويبه – إذا تبين ذلك فهمنا وجه قوله صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم ... ) ، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي ـ أَوْ عَلَى النَّاسِ ـ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ) رواه البخاري (٨٨٧) ، ومسلم (٢٥٢)
قال الإمام النووي رحمه الله:
" فيه دليل على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، وأصحاب الأصول، وهو الصحيح المختار " انتهى.
" شرح مسلم " (٣/١٤٤)
وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله:
" امتناعه صلى الله عليه وسلم من الأمر لهم لمعنى المشقة، أي لولا المشقة لأمرهم به، هذا يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم الآمر بالأحكام وإيجابها، وأن ذلك مصروف إلى اجتهاده، ولولا ذلك لم يمنعه الإشفاق على أمته من أن يوجب عليهم السواك لأجل المشقة " انتهى.
" المنتقى شرح الموطأ " (١/١٣٠)
على أن ثمة توجيها آخر لهذا الحديث لا نحتاج معه تقرير جواز اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله – في معرض ذكر فوائد هذا الحديث -:
" فيه جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه نص، لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفا على النص، لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص، لا وجود المشقة.
قال ابن دقيق العيد: وفيه بحث.
وهو كما قال، ووجهه أنه يجوز أن يكون إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بأن سبب عدم ورود النص وجود المشقة، فيكون معنى قوله: (لأمرتهم) أي: عن الله بأنه واجب " انتهى.
" فتح الباري " (٢/٣٧٦)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب