متزوج، وله مواهب متعددة، ويعاني من التخبط والفوضوية
[السُّؤَالُ]
ـ[مشكلتي أنني لا أعرف ما هي مشكلتي بالضبط!!!! أنا شاب قاربت الثلاثين من العمر، متزوج ولدي بنت واحدة - ولله الحمد – المشكلة هي أنني شخص فوضوي لأبعد حدٍّ، متخبط جدّاً، والمشكلة أني - ولله الحمد - متعدد المواهب، فأنا شاعر، وقاص، ومبدع في التأليف، والإخراج المسرحي والتلفزيوني، وبارع في مجال الأدب والشعر، وفي مجال التاريخ، وكذلك الثقافة العامة، وفهم الواقع، سريع الحفظ، قوي الذاكرة , ومع ذلك فقد كنت مهملاً جدّاً في دراستي، مع العلم أني كنت أستطيع التفوق ولكن! أعشق النوم والكسل، نادراً ما أنجز شيئاً، أحيانا طموحاتي تتجاوز حدود الخيال، فأنا أريد أن أكون كل شيء، فعندما أجد كتاباً في التاريخ - مثلاً -: أجزم أني سأكون مؤرخاً كالطبري، وعندما أشاهد عالِماً في التلفاز - مثلا - ويعجبني: أقرر بعدها أن أكون طالب علم يشار إليه بالبنان، وبعد فترة أطالع قصيدة فأقول: سأكون شاعر الأمة الكبير، وهكذا تجدني في اليوم الواحد أقرر أن أكون أعظم رجل في العالم، وأصل إلى كل شي، وأكون، وأكون، والعجيب أني أحياناً أرسم، وأضع خططاً وبرامج وأنا مبدع في ذلك، ولكنها حبر على ورق، مع يقيني أني لو عملت ربع هذه الخطط لأصبحت أفضل بكثير مما أنا عليه الآن، والأغرب من كل هذا أني متميز في مجال التربية، والشباب، والمراكز الصيفية، ولا يستطيع أحد أن يجاريني، فالأسرة التي أكون أنا رئيسها في المركز: تكون الأولى في كل شيء، ولكني لم أستطع أن أربي نفسي. أغراضي وملابسي دائما في فوضى، كل شي بعدي يكون فوضويّاً، لا أعرف الترتيب، ولا النظام، أحس أن الأشخاص المنظمين أناس لا يستمتعون في حياتهم، أحسهم كـ " الربورتات " التي تؤدي مهامها فقط. أنا كثير الأحلام والخيال، أما في الواقع: فلا شيء، بصراحة وأنا الآن عاطل، تركت الجامعة بعد سنوات طويلة، فأنا متخرج من الثانوية قبل عشر سنوات تقريبا، دخلت الجامعة وتنقلت بين عدة أقسام فيها ... وفي مجال الأعمال الخيرية والتطوعية كنت الأبرز من بين الشباب، وإذا استلمت عمل: أُبدع فيه، ولكن سرعان ما أتركه حتى عُرف عني هذا الأمر، وأصبحت لا أُكلف بشي، مع علمهم أنني أفضل من يقوم بأي أمر. عمري يقارب الثلاثين، ولا يوجد لديَّ دخل، مع أني متزوج، ولم أتعظ، ولكني متضايق جدّاً من حالتي المزرية، وأنا جاد في البحث عن الحل. والله المستعان.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، ونسأله تعالى أن ييسر أمرك، ويفرِّج كربك، ورسالتك تحمل في طياتها شعوراً صادقاً للبحث عن حلٍّ لما تعيشه من اضطرابٍ في التفكير، وخلل في التصور للأهداف الحياتية، ولذا فسنحاول جهدنا الوصول بك إلى برِّ الأمان، ونرجو أن تتعاون معنا بتحقيق ما نقوله لك في واقع العمل، بعد أن تقرأه في واقع النظر.
١. إذا كنتَ مضطرباً في تحديد الهدف لحياتك فترى نفسك متنقلاً من مهنة إلى أخرى، ومن عملٍ لآخر، ومن موهبة لأختها: فلا ينبغي لك أن تتجاهل الغاية التي من أجلها خُلقت، بل خلق الإنس والجن من أجلها، وهي توحيد الله وعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/ ٥٦، ومعرفتك لغاية واحدة خُلقت لأجلها، وسيرك في هذه الحياة الدنيا من أجل تحقيقها هو أيضاً عامل مساعد قوي في حل مشكلتك، فإن نسيت أو غفلت أو ضيعتك هموم الدنيا فإياك أن تغفل عن غاية خلقك، واعمل جاهداً لتحقيقها، وسترى السعادة في الدنيا قبل الآخرة.
قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/ ٩٧. قال ابن القيم – رحمه الله -:
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنَّة مَن لم يدخلها: لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتي وبستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
" الوابل الصيب " (ص ٦٧) .
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن غيره في " مجموع الفتاوى " (١٠ / ٦٤٧) قوله: لقدْ كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال: إنهم لفي عيش طيب. انتهى
٢. ونرى أن عندك جوانب إيجابية ينبغي لك استثمارها، وجوانب سلبية ينبغي لك التخلص منها.
ومن الجوانب الإيجابية عندك:
أ. أنك متعدد المواهب، فمثلك لا يجد صعوبة في الاستقرار على شيء، والإبداع فيه.
ب. أنك سريع الحفظ، وقوي الذاكرة، وهاتان الميزتان لم تُذكرا إلا في تراجم قليلة من أهل العلم والأدب والإبداع، فتستطيع أن تملأ صدرك بكتاب الله تعالى، وتستطيع أن تطلب العلم الشرعي فتكون من الحاملين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذابين عنه وعن دينه.
ج. أنك تملك طموحاً قويّاً، وهذا يعني قوة الشخصية، وقوة الإرادة.
د. تميزك في جانب الدعوة إلى الله، وحفظ القرآن، والقيام بالأعمال الخيرية، وهذا يمكنك استثماره في تحقيق هدك في الحياة؛ لأن مثلك وقف على جوانب من الشرع من الآيات والأحاديث.
وأما الجوانب السلبية التي ينبغي لك التخلص منها فوراً، ودون تردد:
أ. عشقك للنوم والكسل، وهذا أمرٌ محزن أن يكون من مثلك، فأنت مفعم بالحيوية والطاقة، وتملك مواهب متعددة، وعندك طموح قوي، وكل ذلك لا يتناسب مع الكسل والنوم، وقد ذم الأطباء والعلماء والعقلاء كثرة النوم، وجعلوها في سلسلة الأمراض التي تقتل الهمة والعمل وتمرض البدن.
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: خصلتان تقسيان القلب: كثرة النوم، وكثرة الأكل.
وقال ابن القيم - رحمه الله -:
وأما مفسدات القلب الخمسة: فهي التي أشار إليها: من كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، والمنام، فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب.
" مدارج السالكين " (١ / ٤٥٣) .
وشرح ما يتعلق بالنوم فقال - رحمه الله -:
المُفسد الخامس: كثرة النوم؛ فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدّاً، ومنه الضار غير النافع للبدن ... .
وبالجملة: فأعدل النوم وأنفعه: نوم نصف الليل الأول، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
" مدارج السالكين " (١ / ٤٥٩) .
فانتبه لهذا الأمر، والتزم بأنفع النوم وأعدله، ودع عنك النوم الزائد عن الحاجة، وانظر لما يسببه من آثار سيئة، ولا ترضى لنفسك إلا بالكمال.
ب. يظهر لنا من رسالتك أنك تبحث عن المجد والشهرة، ولا يهمك تحقيق ما تصبو إليه نفسك إلا من أجل أن تكون مميزاً ويشار إليك بالبنان – على حد تعبيرك -، وهذا أمرٌ خطير، ويجب عليك التوقف عن هذه النية، والتوقف عن السعي لتحقيق مجد وشهرة؛ فإن هذا من كبائر الذنوب، وهو مُحبط للأعمال، وهو مسبب للقلق والكآبة حتى وإن تعلق بأمر غير شرعي؛ لأن سعيك لأن تكون شاعر الأمة، أو عالِماً، أو أعظم رجلٍ في الدنيا: لن يأتي من مواهب متعددة، وطموح جامح، مع كثرة نوم، بل يحتاج لكد وتعب وجد واجتهاد، وسترى نفسك مع واقعك أنك لن تصبح كذلك، فتصاب بالإحباط والكآبة، وهذا هو الواقع، وأنت قد أخطأت خطأ عظيماً، وإياك أن تبحث عن مجد نفسك وشهرتها؛ فإن ذلك سيكون على حساب الأجور والثواب إن كان في أعمالك طاعات، وسيكون على حساب صحتك وعقلك وبدنك ووقتك إن كان في أعمالك أمور دنيوية، فاحذر هذا المرض الخطير، وليكن طلبك للعلم وحفظك للقرآن من أجل الأجور التي عند الله، وليكن تنافسك مع غيرك داعياً لك للعمل والاجتهاد، دون نية إزاحة غيرك والجلوس مكانه.
ج. التخبط في الاستقرار على عملٍ معيَّن، وأنت قد حباك الله مواهب متعددة، وتملك مواصفات مميزة، وهذا التخبط سببه هو: عدم الاستقرار على شيء واحد من مواهبك وأعمالك، فالذي ننصحك به: أن تنظر أي الأشياء أقرب لقلبك من الأعمال التي تتقنها، اخترها ودع غيرها، واعمل في حقلها، وأبدع في صناعتها وإنتاجها وقيامها، على شرط أن تكون موافقة للشرع، فوضوح الهدف عندك لتحقيق عمل معيَّن سيجعلك تصرف النظر عن غيره، واستقرارك على عملٍ واحد دون غيره: سيريح بالك، ويجعلك تبدع في تحقيقه، ولك أن تتصور كم سيكون ذلك مساهماً في حل مشكلتك، وكم سيفرح ذلك زوجتك الصابرة على أفعالك وكسلك ونومك!
د. الفوضوية في ملابسك وترتيب أغراضك: أمر مخالف للفطرة والعقل، ولا يمكن لإنسان حباه الله تعالى عقلاً سليماً ويستمتع بالفوضى وعدم الترتيب، وهب أنك جئت مطعماً لتأكل فيه، ووجدته فوضويّاً كما هو حالك: فهل ستستمتع بالأكل فيه؟ وهب أنك جئت محلا للبقالة لتشتري غرضاً فلم تجد رفوفاً ولا ترتيباً للمواد، ولا تصنيفاً لها، وسألت صاحب المحل عن شيء منها، فقال لك: ابحث في كل أغراض المحل فستجده بينها! فأي عاقل يمكن أن يقول إن هذه الفوضى خير من الترتيب والتنظيم والتصنيف للمواد؟! وقل مثل ذلك في شئون حياتك كلها، فالاستمتاع – أخي الفاضل – هو بوضع كل شيء في مكانه المناسب، والاستمتاع بالنظافة، والطهارة، والترتيب، وليس بعكس ذلك.
أخي الفاضل:
احرص على ما عندك من أمور إيجابية، ونمِّها، وقوِّها، وتخلص مما عندك من سلبيات، واعلم أنك مسئول عن نفسك، وعن زوجتك، وابنتك، فأي زوج تحب أن تكون؟ وأي أبٍ تود أن تراه ابنتك؟ الأمر يرجع إليك في الانطلاق نحو الكمال، وأن تدع عنك الكسل، وتنهض لتقوم بعملٍ واحد شرعي، تبدع فيه، وتحقق آمالك بالعمل المستقر، والحياة الهانئة، فتسعد، وتسعد زوجتك، وابنتك، ولا تنس الهدف الأسمى الذي خُلقت من أجله، وهو توحيد الله وعبادته، فأكثر من الأعمال الصالحة، واستثمر ذاكرتك وقوة حفظك في إتمام حفظ كتاب الله تعالى، والالتزام بحلقات العلم، واسأل ربك تعالى أن يوفقك، وأن يهديك لما فيه صلاح، وصلاح أسرتك.
ننصحك بأن تبحث عن عمل وظيفي تلتزم به، يكون متناسبا مع أقرب مواهبك إلى نفسك، وأولاها عندك بالعطاء والإبداع، ولو أمكن أن تعرض شيئا من أعمالك على بعض المجلات الإسلامية، أو المواقع الإلكترونية الإسلامية، فربما تجد فرصة للعمل والعطاء عندهم، وربما يجدون هم ـ أيضا ـ عندك من الموهبة والعطاء، ما يمكن أن ينفع الناس بما عندك من الخير، وتستثمر فيه النعمة التي رزقك الله، شريطة أن تكون جادا في الالتزام، عازما على إصلاح نفسك وتغييرها.
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب