تغيير المنكر مما يعني المسلم وليس مما لا يعنيه
[السُّؤَالُ]
ـ[هناك حديث يقول (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ...الخ) وهناك حديث آخر يأمرك بأن تدع ما لا شأن لك به. فماذا ننكر وماذا لا ننكر؟ إذا رأيت سوء أخلاق في دولة إسلامية مثلاً كلقاء الفتيات وما إلى ذلك: هل أنهاهم عن ذلك رغم أنني أعرف أنهم لن يستمعوا إلي؟ أم أذهب وأبلغ السلطات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا تعارض بين ما ثبت في الشرع سواء بين الآيات بعضها مع بعض، أو الأحاديث مع الأحاديث، أو الآيات مع الأحاديث، إذْ كله وحي من عند الله، قال الله عز وجل {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} النساء/٨٢. ولو حدث تعارض فهو في عقولنا نحن وفي أفهامنا وليس في ذات النصوص، ولذلك اعتنى العلماء ببيان النصوص المشكلة، وإزالة التعارض الذي يقع في بعض الأذهان في بعض النصوص وأما بالنسبة للسؤال فإنه لا تعارض بحمد الله بين قوله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " – رواه مسلم (٤٩) – وبين قوله صلى الله عليه وسلم " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " – رواه الترمذي (٢٣١٧) وابن ماجه (٣٩٧٦) وصححه ابن القيم في " الجواب الكافي " (ص ١١٢) وغيره -.
فلا يمكن بحال أن يوجب الشرع على من رأى منكراً أن يغيره وأن يقول له في الوقت نفسه إن الأحسن والأفضل ترك إنكاره.
فيكون للحديث الأول حال تختلف عن حال الحديث الثاني.
وقريب من هذا ما فهمه بعض الناس من قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ، فأرشدهم أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه إلى الفهم الصحيح، وبيَّن ذلك العلماء رحمهم الله.
عن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم مَن ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه. رواه الترمذي (٢١٦٨) وأبو داود (٤٣٣٨) وابن ماجه (٤٠٠٥) . والحديث: صححه الترمذي وابن حبان (١ / ٥٤٠) .
قال شيخ الإسلام - في فوائد آية {عليكم أنفسكم ...} -:
الخامس: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد؛ فإن ذلك داخل في قوله {عليكم أنفسكم} وفي قوله {إذا اهتديتم} .
فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيها المعنى الآخر وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا وإعراضه عما لا يعنيه كما قال صاحب الشريعة " مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "، ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه لا سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة. " مجموع الفتاوى " (١٤ / ٤٨٢) .
وقال رحمه الله:
إذ المؤمن عليه أن يتقى الله في عباده وليس عليه هداهم، وهذا معنى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ، والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات: لم يضره ضلال الضلال، وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد، فأما القلب: فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي: " وذلك أدنى - أو أضعف – الإيمان ". " مجموع الفتاوى " (٢٨ / ١٢٦ – ١٢٨) .
فعلم أن إنكار المنكر مما يعني المسلم فيجب عليه إنكاره قدر الوسع والطاقة ووفق المصلحة الشرعية، وأن الذي لا يعنيه لا يمكن أن يكون من الواجبات أو المستحبات.
وهذه أقوال العلماء في شرح حديث " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ":
أ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(المسلم) مأمور إما بقول الخير، وإما بالصمت، فإذا عدل عما أُمر به من الصمت إلى فضول القول الذي ليس بخير: كان هذا عليه، فانه يكون مكروهاً والمكروه ينقصه، ولهذا قال النبي " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "، فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص مِن حُسن إسلامه.
" مجموع الفتاوى " (٧ / ٤٩، ٥٠) .
ب. وقال ابن القيم رحمه الله:
وقد جمع النبيُّ الورعَ كله في كلمة واحدة فقال " مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "، فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك: هو ترك الفضلات.
وفى الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة " كن ورعاً تكن أعبد الناس ". " مدارج السالكين " (٢ / ٢١) .
د. وقال ابن رجب الحنبلي:
هو " ترك المحرمات.. والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ درجة الإحسان ... وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني: حفظ اللسان من لغو الكلام. " جامع العلوم والحِكَم " (١ / ٣٠٩ – ٣١١) .
هـ. وقال الزرقاني:
قال بعضهم: ومما لا يعني: تعلم ما لا يهم من العلوم وترك الأهم منه، كمن ترك تعلُّم العلم الذي فيه صلاح نفسه واشتغل بتعلم ما يصلح به غيره كعلم الجدل، ويقول في اعتذاره: نيتي نفع الناس، ولو كان صادقاً لبدأ باشتغاله بما يصلح به نفسه وقلبه من إخراج الصفات المذمومة من نحو حسد ورياء وكبر وعجب وترؤس على الأقران وتطاول عليهم ونحوها من المهلكات.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبله. " شرح الزرقاني " (٤ / ٣١٧) .
و. وقال المباركفوري:
قال القاري - في معنى تركه ما لا يعنيه -: أي: ما لا يهمه ولا يليق به قولاً وفعلاً ونظراً وفكراً، وقال: وحقيقة ما لا يعنيه: مالا يحتاج إليه في ضرورة دينه ودنياه، ولا ينفعه في مرضاة مولاه، بأن يكون عيشه بدونه ممكناً، وهو في استقامة حاله بغيره متمكناً، وذلك يشمل الأفعال الزائدة والأقوال الفاضلة. " تحفة الأحوذي " (٦ / ٥٠٠) .
ثانياً:
وأما ما الذي تنكره: فإنه كل منكر جاء الشرع ببيان قبحه وسوء عاقبة فاعله، كالزنا والربا والنظر المحرم والسماع المحرم وحلق اللحية وإسبال الثوب وقطيعة الرحم والإحداث في الدين وما شابه ذلك.
ولا يشترط أن تكون والياً حتى تغير باليد، ولا أن تكون عالماً حتى تغير باللسان، بل يكفي أن تكون قادراً على التغيير ولا يترتب على التغيير مفسدة أو منكر أعظم من الذي أنكرته، ويكفي أن تكون عالماً أن هذا منكر في الشرع فتنكره بلسانك.
وأما التغيير بالقلب فهو أن تبغض هذا المنكر بقلبك وتفارق المكان الذي فيه.
ثالثاً:
وأما ما سألت عنه من أنك ترى بعض المنكرات فتسأل هل أنكر على أصحابها أم أبلِّغ السلطات؟
فالجواب: أن هذا بحسب المنكر وفاعله، فإذا رأيت منكراً من فاعلٍ لا يمكنك إمهاله حتى تبلغ عنه فالواجب أن تنكر عليه تداركاً للوقت خشية ذهاب صاحبه.
وإن كان المنكَر كبيراً وعظيماً ولا يمكنك إنكاره وتغييره وحدك: فعليك أن تبلغ السلطات.
والمقصود: هو أن يزول المنكر سواء بيدك أو بيد غيرك، فإن لم تستطع فبلسانك ولا يهمك أن يسمعوا منك أو يعرضوا عنك، فإنما عليك البلاغ، وقد يقذف الله في قلب أحدهم الهداية بكلمة منك، وقد يزين لك الشيطان ترك الإنكار عليهم بحجة أنهم لن يستمعوا إليك فاحذر من هذا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الشيخ محمد صالح المنجد