كيف تتخلص من سارقي الأعمار
[السُّؤَالُ]
ـ[ابتليت - والله تعالى المستعان- بصحبة الفارغات اللاتي لا يحسبن للوقت حسابا، فيتحدثن في الهاتف لفترات طويلة، ويتصلن في اليوم أكثر من مرة , وأنا أحيانا أجاريهن في انتظار أن ينهين المكالمات ولكن دون فائدة، فأنا من ينهيها غالبا , المشكلة أنني محتارة جدا بين أن أتعامل معهن بحسن خلق، أو أن أحافظ على وقتي الذي هو عمري , كثيرا ما أشغلني هذا الموضوع إذا صارحتهن أو تجاهلت مكالماتهن أو أصررت على إنهائها رغما عنهن، أظل خائفة من أن أكون سيئة الخلق، وسوء الخلق كما تعلمون يفسد العمل , وإذا جاريتهن وأرضيتهن نوعا ما أظل خائفة ماذا سأقول لربي في ساعاتي التي أضعتها دون فائدة , مع العلم أني حاولت كثيرا أن أصارح مرة بلطف ومرة بعنف، ولكن دون جدوى، كما لا أستطيع قطع هذه العلاقات التي تزيد مدة بعضها عن السبع سنوات. أشيروا علي جزاكم الله خيرا، فقد طالت معاناتي.. وحول نفس الموضوع: كيف أتعامل مع الأهل في المنزل، أو كثرة الضيوف الذين لا يعرفون للوقت قيمة، ويطالبونني بالجلوس معهم لساعات، أو ربما أيام دون عمل ترجى فائدته؟ وفقكم الله لما يحب.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نصيحتنا لك نوجزها في أمور ثلاثة:
الأول: نثني على حرصك ومحافظتك على وقتك، والحق كل الحق فيما تشعرين؛ لأن عُمُر الإنسان هو أيامه التي تُطوى، وساعاته التي تُقضى، والعاقل هو الذي يحفظ رأس ماله من الضياع، والخاسر هو الذي يفرط في أثمن ما يملك، فلا يرعى له حرمة، ولا يعرف له قدرا.
جاء في تفسير الرازي "مفاتيح الغيب" (٢٢/٨٣) :
" أقسم الله تعالى بالعصر – الذي هو الزمن – لما فيه من الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر؛ ولأن العمر لا يُقَوَّمُ بشيء نفاسة وغلاء، فلو ضيعت ألف سنة فيما لا يعني، ثم تبت وثبتت لك السعادة في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد، فعلمت أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكان الزمان من جملة أصول النعم، فلذلك أقسم الله به، ونبه سبحانه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها الإنسان، وأن الزمان أشرف من المكان فأقسم به، لكون الزمان نعمة خالصة لا عيب فيها، وإنما الخاسر المعيب هو الإنسان " انتهى.
ثانيا: ثم نوصيك بعدم المبالغة في الزهد بالحديث مع الناس والأصحاب، والمحافظة على قدرٍ مِن مجالستهم وملاطفتهم، خاصة الأقارب منهم، فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم زيارة أصحابه، والأنس بهم، والحديث معهم، ولكن المحذور هو المبالغة في ذلك حتى تنقضي الساعات الطوال، أو حتى يقع التفريط في الواجبات الأخرى التي تنتظر قضاءها، من عبادة، وتعلم، وعمل، ونحوها، وخير الأمور أوساطها، ومن قصد الخير وفقه الله إليه.
ولتحرصي أثناء محادثة أصدقائك وأقاربك على مدارسة المواضيع الجادة المهمة، ومناقشة ما ينفع في الدين أو الدنيا، ليكتب لك الأجر في إفادتهم، ولتكسبوا مجلسكم ذلك حجة لكم يوم القيامة، لا حجة عليكم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَابِ)
رواه أحمد (٢/٤٦٣) ، وصححه المحققون على شرط الشيخين. والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/٧٦)
ثالثا: أحسني التخلص والاعتذار من سارقي الأعمار والأوقات، وتأملي في الوسائل التي تعينك على ذلك، فأنت أدرى بظرفك وحالك، ومن ذلك مثلا:
أن تعتذري بانشغالك بالتحضير لامتحان الجامعة أو المدرسة أو الدورة العلمية إن كنت مرتبطة بشيء منها، أو بانشغالك بتجهيز مشروع معين لتلك الجهة، فالناس غالبا ما يعذرون في هذه الأشياء، بل ويشجعون على استغلال الوقت لها، ولو اضطرك الأمر للارتباط فعليا بإحدى الجهات العلمية كي يقتنع الناس بعذرك، فإن لم يكن عليك اختبارٌ أو واجبٌ لتلك الجهة فاقصدي في حديثك ما سيأتي منها؛ لأن التحضير والإعداد يكون سابقا دائما، وبهذا تصدقين معهم، وتجدين العذر منهم.
ويمكنك استعمال هذا العذر مع الضيوف الحاضرين، كما يمكنك الاعتذار به من صديقاتك المتصلات، وإن كان التخلص على الهاتف أسهل وأيسر، إذ لا يرى المتصل حقيقة ما تفعلين في البيت، فلك أن تعتذري منها برغبتك في الصلاة قبل فوات وقتها، ولتكن نيتك صلاة النافلة إن كنت صليت الفريضة، أو اطلبي من والدتك مناداتك أثناء حديثك على الهاتف لطلب مساعدتها في العمل، فإذا سمعت المتحدثة نداء الوالدة قطعت اتصالها بك، وهكذا يستطيع المرء أن يجد ما يتخلص به من نزيف الأوقات الذي يحدثه كثير من الناس.
وننقل لك هنا شكوى أحد العلماء من سارقي الأعمار، وكيف كان علاجه لهذه المشكلة، مع كلام جميل في أهمية الوقت، وضرورة حفظه واستغلاله.
يقول ابن الجوزي في "صيد الخاطر" (ص/٢٤٠-٢٤١) :
" أعوذ بالله من صحبة البطَّالين! لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، وما يتخلله غيبة!
وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان.
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة، لموضع قطع المألوف! وإن تقبلته منهم ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي: فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق.
ثم أعددت أعمالًا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد – ورق الكتابة -، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي.
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.
ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ، ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يُطلِع على شرف العمر، ومعرفة قدر أوقات العافية، إلا مَن وَفَّقه وألهمه اغتنام ذلك، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت/٣٥" انتهى.
نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب