للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل من العقوق سفره لطلب الرزق وتركه لوالديه؟

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا شاب في ٢٨ من عمري وخطبت منذ حوالي عام والحمد لله، الرزق قليل، ولكن جاءني بإذن الله عقد عمل بإحدى الدول العربية براتب حسن، ولكني أتردد في قبول الوظيفة حيث إني الابن الوحيد لوالدي، والأخ الوحيد لثلاثة بنات، فهل يعتبر سفري من أجل مستقبلي وإتمام زواجي فيه شيء من عقوق الوالدين؟ حيث إنني إن سافرت سأتركهما وحدهما وهما كبار السن، علما بأني إن تزوجت هنا لن أعيش معهما، وهما يمانعان في الانتقال من بيتهما. أسألكم إرشادي لما فيه الخير والصلاح.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

إذا كان أحد والديك أو كلاهما محتاجاً إليك لخدمته ولا يوجد من يقوم بذلك بعد سفرك، فإنك لا تسافر إلا بإذنهما.

فإن أذنا لك في السفر، أو كانا غير محتاجَيْن إليك، إما لكونهما يقدران على خدمة أنفسهما، أو يوجد من يخدمهما غيرك، فلا حرج عليك حينئذ من السفر لإتمام زواجك، وتحصين فرجك، ولو لم يأذنا، ولا يعد سفرك من العقوق.

إلا أنه من الأحسن بلا شك إرضاؤهما، وبيان ما في السفر من مصالح لك، وأنك لن تضيعهما، وسيكون سفرك بقدر حاجتك، ثم تعود إليهما. . . ونحو ذلك.

وقد نص العلماء رحمهم الله على جواز سفر الولد لطلب الرزق بدون إذن والديه، بشرط أن يكون السفر آمناً لا خطورة فيه على الولد، وأن يكونا غير محتاجين إليه.

قال الكاساني في "بدائع الصنائع" (٧/٩٨) أثناء حديثه عن الخروج للجهاد إذا كان فرض كفاية، قال:

" وَلا يُبَاحُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْرُجَ إلا بِإِذْنِ مَوْلاهُ , وَلا الْمَرْأَةُ إلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ; لأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى , وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ , وَكَذَا الْوَلَدُ لا يَخْرُجُ إلا بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا إذَا كَانَ الآخَرُ مَيِّتًا ; لأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ.

وَالأَصْلُ أَنَّ كُلَّ سَفَرٍ لا يُؤْمَنُ فِيهِ الْهَلاكُ , وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ لا يَحِلُّ لَلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِيهِ ; لأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَى وَلَدِهِمَا فَيَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ , وَكُلُّ سَفَرٍ لا يَشْتَدُّ فِيهِ الْخَطَرُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا إذَا لَمْ يُضَيِّعْهُمَا ; لانْعِدَامِ الضَّرَرِ , وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ رَخَّصَ فِي سَفَرِ التَّعَلُّمِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا ; لأَنَّهُمَا لا يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهِ , فَلا يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ " انتهى.

وقال السرخسي في "السير الكبير" (١/١٩٧) :

" وَكُلُّ سَفَرٍ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ غَيْرَ الْجِهَادِ لِتِجَارَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَبَوَاهُ , وَهُوَ لا يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ فَلا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ ; لأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الأَسْفَارِ السَّلامَةُ , وَلا يَلْحَقُهُمَا فِي خُرُوجِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ , فَإِنَّ الْحُزْنَ بِحُكْمِ الْغَيْبَةِ يَنْدَفِعُ بِالطَّمَعِ فِي الرُّجُوعِ ظَاهِرًا , إلا أَنْ يَكُونَ سَفَرًا مَخُوفًا عَلَيْهِ مِنْهُ. . . فَحِينَئِذٍ حُكْمُ هَذَا وَحُكْمُ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ سَوَاءٌ ; لأَنَّ خَطَرَ الْهَلاكَ فِيهِ أَظْهَرُ " انتهى باختصار يسير.

وقال النووي في "المجموع" (٨/٣١٤) :

" إذَا أَرَادَ الْوَلَدُ السَّفَرَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ فَقَدْ جَزَمَ الْمُصَنِّفُ (يعني: أبا إسحق الشيرازي رحمه الله) فِي أَوَّلِ كِتَابِ السِّيَرِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ الأَبَوَيْنِ , قَالَ: وَكَذَلِكَ سَفَرُ التِّجَارَةِ لأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا السَّلامَةُ " انتهى.

ثانياً:

وأما عدم إقامتك معهما بعد الزواج، مع رغبتهما في بقائك معهما، فلا حرج عليك في ذلك، إن شاء الله تعالى، إذا لم يكن في ذلك تضييع لهما، أو الإضرار بهما.

لاسيما وقد تكون هناك أسباب تدعو إلى ذلك، كضيق المسكن، أو رغبة الزوجة في الانفراد بمسكن مستقل- وهذا حق لها- ونحو ذلك من الأسباب.

مع التنبه على أن انفرادك عنهما لا يعني عدم السؤال عنهما، ولا قضاء حوائجهما وبرهما، بل إن ذلك من أوجب الواجبات عليك لاسيما مع كبرهما، قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الإسراء/٢٣، ٢٤.

وبر الوالدين باب مفتوح إلى الجنة، فاحرص على إرضائهما، والإحسان إليهما، وعدم إغضابهما.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>