شرح حديث يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى
[السُّؤَالُ]
ـ[قمت بإهداء بضعة كتب إسلامية باللغة الفرنسية لشخص غير مسلم , من بين تلك الكتب كتاب ١١٠ أحاديث قدسية، نشر دار السلام , قال لي ذلك الشخص إنه مقتنع أن القرآن لا يمكن أن يكون إلا كلام الله , ولكن أبدى تحفظه، ولم يفهم حديثا قدسيا في ذلك الكتاب، والذي هو: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشر هذه الأمة على ثلاثة أصنافٍ، صنف يدخلون الجنة بغير حسابٍ، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصنف يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات ذنوباً، فيسأل الله عنهم وهو أعلم بهم، فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك، فيقول: حطوها عنهم واجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي الجنة) قال لي: لماذا على اليهود والنصارى؟ قلت له: اليهود والنصارى الذين خالفوا شرع الله، وأضلوا الناس، وقاتلوا الأنبياء، وليس الذين اتبعوا شرع الله، واتبعوا الأنبياء! قال: لا لم يذكر هذا في الحديث، ولكن جاء كلمة (اليهود والنصارى) . قلت له: هناك شرح لكل حديث سأخبرك عنه لاحقاً لأسأل بعض أهل الحديث , وللأسف أن بعض الكتب المترجمة لا تشرح لغير المسلم وتوضح له. أريد شرحا مفصلا، أفيدوني بارك الله بكم (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) ]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
الحديث المذكور أخرجه الطبرانى كما فى مجمع الزوائد (١٠/٣٤٣) ، قال الهيثمى: فيه عثمان بن مطر وهو مجمع على ضعفه. والحاكم (١/١٢٦، رقم ١٩٣) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي.
وأصل الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ هَذَا فِكَاكُكَ مِنْ النَّارِ)
وكان سعيد بن أبي بردة قد حدَّث بهذا الحديث أمام عمر بن عبد العزيز، فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فحلف له.
وفي لفظ:
(لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا)
وكلها في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من طريق أبي بردة عن أبيه حديث رقم: (٢٧٦٧)
وقد أخذ هذا الحديث عن أبي بردة أكثر من ثمانية من الرواة، كما في " مسند أحمد " (٤/٣٩١) ، ومسند عبد بن حميد (٥٣٧،٥٤٠) ، وسنن ابن ماجه (٤٢٩١) ، وغيرها، اختلفت ألفاظ بعضهم عن بعض، إلا أنها متفقة في المعنى كلها، تتحدث عن فداء المسلم من النار بواحد من اليهود والنصارى.
غير أن واحدا من هذه الألفاظ فيه اختلاف عن الباقي، وهو ما يرويه غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه، بلفظ: (يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)
ثانيا:
ولما كان ظاهر هذا الحديث مخالفا لقول الله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام/١٦٤، كان للعلماء مسلكان في التعامل مع هذا الحديث:
المسلك الأول:
عدم قبوله وتضعيفه لسببين:
١- اختلاف الرواة عن أبي بردة في إسناد الحديث.
فمرة يقول بعضهم: عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرى يقول آخر: عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد.
ويقول آخر: عن أبي بردة، عن رجل من أصحاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء مرة عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه.
ومرة عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن بعض أهله.
كل هذه الأوجه نجدها في " التاريخ الكبير " للإمام البخاري رحمه الله (١/٣٩)
ثم قال الإمام البخاري رحمه الله:
" والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، وأن قوما يُعَذَّبُون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر ... - ثم قال -: ألفاظهم مختلفة الا أن المعنى قريب " انتهى.
" التاريخ الكبير " (١/٣٩)
وقال الإمام البيهقي رحمه الله:
" وقد علل البخاري حديث أبي بردة باختلاف الرواة عليه في إسناده، ثم قال: الحديث في الشفاعة أصح " انتهى.
" البعث والنشور " (حديث رقم/ ٨٦)
٢- بسبب شك الراوي فيه، فقد جاءت في رواية الإمام مسلم الأخيرة قول أحد رواة الحديث: (ويضعها على اليهود والنصارى فيما أحسب أنا) قال أبو روح حرمي بن عمارة أحد رواة الحديث: لا أدري ممن الشك.
قال البيهقي رحمه الله:
" اللفظ الذي تفرد بها شداد أبو طلحة بروايته في هذا الحديث. وهو قوله: (ويضعها على اليهود النصارى) مع شك الراوي فيه: لا أراه محفوظا. والكافر لا يعاقب بذنب غيره. قال الله عز وجل: (لا تزر وازرة وزر أخرى)
وإنما لفظ الحديث على ما رواه سعيد بن أبي بردة، وغيره، عن أبي بردة " انتهى.
" البعث والنشور " (حديث رقم/٨٦)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وفي حديث الباب وما بعده – وهي أحاديث تحت باب القصاص يوم القيامة - دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير ... - وذكر الحديث ونقل عن البيهقي تضعيفه - " انتهى باختصار.
" فتح الباري " (١١/٣٩٨)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله:
" رواه الجماعة عن أبي بردة دون تلك الزيادة – يعني لفظ (ويضعها على اليهود والنصارى) ، فهي عندي شاذة، بل منكرة، لوجوه:
أولا: أن الراوي شك فيها، وهو عندي شداد أبو طلحة الراسبي، أو الراوي عنه حرمي بن عمارة، ولكن هذا قد قال - وهو أبو روح -: (لا أدري ممن الشك) ، فتعين أنه الراسبي، لأنه متكلم فيه من قبل حفظه وإن كان ثقة في ذات نفسه، ولذلك أورده الذهبي في " الضعفاء " وقال: قال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا. وقال العقيلي: له أحاديث لا يتابع
عليها. وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق يخطئ. وليس له في مسلم إلا هذا الحديث. قال الحافظ في " التهذيب ": " لكنه في الشواهد ".
ثانيا: ولما كان قد تفرد بهذه الزيادة التي ليس لها شاهد في الطرق السابقة، وكان فيه ما ذكرنا من الضعف في الحفظ، فالقواعد الحديثية تعطينا أنها زيادة منكرة، كما لا يخفى على المهرة.
ثالثا: أن هذه الزيادة مخالفة للقرآن القائل في غير ما آية: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) " انتهى باختصار.
" السلسلة الضعيفة " (حديث رقم/١٣١٦، ورقم/٥٣٩٩) .
المسلك الثاني:
توجيه معنى الحديث بما يتوافق مع ظاهر القرآن الكريم:
قال الإمام البيهقي رحمه الله:
" ووجه هذا عندي - والله أعلم - أن الله تعالى قد أعد للمؤمن مقعدا في الجنة ومقعدا في النار كما روي في حديث أنس بن مالك، كذلك الكافر كما روي في حديث أبي هريرة، فالمؤمن يدخل الجنة بعدما يرى مقعده من النار ليزداد شكرا، والكافر يدخل النار بعد ما يرى مقعده من الجنة لتكون عليه حسرة، فكأن الكافر يورث على المؤمن مقعده من الجنة، والمؤمن يورث على الكافر مقعده من النار، فيصير في التقدير كأنه فدى المؤمن بالكافر " انتهى.
" البعث والنشور " (حديث رقم/٨٥)
وذكر رحمه الله احتمالا آخر في شرح الحديث الذي بعده فقال:
" ويحتمل أن يكون حديث الفداء في قوم قد صارت ذنوبهم مكفرة في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تعد ذنوبهم مكفرة في حياتهم، ويحتمل أن يكون هذا القول لهم في حديث الفداء بعد الشفاعة، فلا يكون بينهما اختلاف، والله أعلم " انتهى.
وقال الإمام النووي رحمه الله:
" معنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبى هريرة: (لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار) فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره.
ومعنى: (فكاكك من النار) أنك كنت معرَّضا لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. وأما رواية: (يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب) : فمعناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم، لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التأويل، لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ، وقوله: (ويضعها) مَجاز، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه، لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم، وأبقى على الكفار سيئاتهم، صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها، بأن سنُّوها، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها " انتهى.
" شرح مسلم " (١٧/٨٥)
وقال رحمه الله:
" معنى (فكاكك) : أنك كنت معرضا لدخول النار، هذا فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عددا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بذنوبهم وكفرهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين، والله أعلم " انتهى.
" رياض الصالحين " (ص/٥٣٤) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) :
" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ)) - رواه ابن ماجه في السنن برقم (٤٣٤١) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " (١١/٤٥١) : إسناده صحيح. وقال البوصيري في " الزوائد " (٣/٣٢٧) : " هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين "، وصححه السيوطي في " البدور السافرة " (ص/٤٥٦) -
وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة، ويُهدّم بيته الذي في النار، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة، ويُبنى بيته الذي في النار.
وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار؛ لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب
أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... - ثم ذكر الأحاديث السابقة " انتهى باختصار.
" تفسير القرآن العظيم " (٥/٤٦٥)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وقال غيره – يعني غير البيهقي - يحتمل أن يكون الفداء مجازا عما يدل عليه حديث أبي هريرة بلفظ: (لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا..) الحديث، وفيه في مقابله: (ليكون عليه حسرة) فيكون المراد بالفداء إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أعد له، وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أعد له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا) ، وبذلك أجاب النووي تبعا لغيره.
وأما رواية غيلان بن جرير فأولها النووي أيضا تبعا لغيره: بأن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم، فيعاقبون بذنوبهم لا بذنوب المسلمين، ويكون قوله: (ويضعها) أي: يضع مثلها؛ لأنه لما أسقط عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي وهو إثمهم.
ويحتمل أن يكون المراد آثاما كانت الكفار سببا فيها بأن سنوها، فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك السنة السيئة باقية، لكون الكافر لا يغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ، ووضعه عن المؤمن الذي فعله بما من الله به عليه من العفو والشفاعة، سواء كان ذلك قبل دخول النار أو بعد دخولها والخروج منها بالشفاعة. وهذا الثاني أقوى. والله أعلم " انتهى.
" فتح الباري " (١١/٣٩٨)
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (٣/٤٦٨) :
" أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فيغفرها للمسلمين ويضعها على اليهود والنصارى) ، فهذا الحديث قد شك راويه فيه، ولا يحتج به مع الشك، ولكونه يخالف ظاهر القرآن الكريم، لكن إن صح عنه صلى الله عليه وسلم فهو لا يقول إلا الحق، ويجب حمله على ما يوافق الأدلة الأخرى، وذلك بحمله على اليهود والنصارى الذين كانوا سببا في وقوع المسلمين في الذنوب التي غفرت لهم، لقوله سبحانه: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل إثم من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) ولما جاء في معناه من الأحاديث " انتهى.
وانظر جواب السؤال رقم: (٩٤٨٨)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب