للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

منزلة الفقيه أعلى من منزلة راوي الحديث وفي كل خير

[السُّؤَالُ]

ـ[هل منزلة الفقيه أعلى من منزلة راوي الحديث؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

الفقيه هو المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية، ويوضح مقررات الشريعة، ويشرح للناس أحكام دينهم، فدائرة حديثه مقاصد الدين، ومحكمات القرآن المبين، وتحقيق الفهم الصحيح لما يريده الله سبحانه وتعالى من العباد.

وهذا عمل لا يقوم به إلا أفراد الناس والقلائل منهم، لما يقتضيه من اطلاع واسع على النصوص، وممارسة طويلة لكلام أهل العلم، وذكاء في دراسة الواقع وتنزيل الأحكام الشرعية عليه.

أما راوي الحديث: فهو ناقل لما سمع من السنة النبوية، يؤدي ما تحمله بكل صدق وأمانة، ويعتني بتبليغ الحديث كما بلغ إليه بأي طريقة كانت، ولا يتكلف عناء شرح الحديث أو استنباط الأحكام الشرعية منه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، وإنما يقتصر دوره على الأداء والرواية.

وهذا عمل يتطلب الدقة والعناية النقلية، ولا يقتضي نظرا فقهيا ولا عناية أصولية.

وقد وصف الإمام الأعمش رحمه الله عملَ كلٍّ مِن الفقيه وراوي الحديث بوصف دقيق فقال:

" يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة " انتهى.

"نصيحة أهل الحديث للخطيب البغدادي" (١/٤٥) .

ولا يخفى أن عمل كُلٍّ من الطبيب والصيدلي عمل متكامل، لا يستغني أحدهما عن الآخر، فكان لكل منهما من الفضل والتأثير القدر البالغ من الأهمية، وبذلك جاءت الشريعة أيضا تقر لكل من الفقيه والراوي بالفضل والأجر عند الله تعالى، مع مزيد فضل للفقيه (الطبيب) الذي يعتني بالفهم والاستنباط.

وقد استنبط بعض أهل العلم هذا التقرير من قوله صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ) رواه أبو داود (٣٦٦٠)

قال الرامهرمزي (ت ٣٦٠هـ) رحمه الله: " ففرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين ناقل السنة وواعيها، ودل على فضل الواعي بقوله: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه) وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر، مثال ذلك أن تمثل بين مالك بن أنس وعبيد الله العمري، وبين الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي، وبين أبي ثور وابن أبي شيبة، فإن الحق يقودك إلى أن تقضي لكل واحد منهم بالفضل، وهذا طريق الإنصاف لمن سلكه، وعلم الحق لمن أمه ولم يتعده " انتهى.

"المحدث الفاصل" (١/١٦٩-١٧٠) .

وأما من جمع بين الحسنيين، فوعى مقالة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما جاء به من العلم، وتفقه في معانيه، فانتفع به في نفسه، ونفع به الناس، فهؤلاء خير أصناف الناس قاطبة.

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً.

فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) رواه البخاري (٧٩) ، ومسلم (٢٢٨٢) .

الغيث: المطر. الأجادب: الأرض التي لا تنبت كلأ. القيعان: جمع القاع وهو الأرض التي لا نبات فيها.

يقول الإمام النووي رحمه الله:

" أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:

فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيى بعد أن كان ميتا، وينبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.

والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.

والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم " انتهى.

"شرح مسلم" (١٥/٤٧-٤٨) .

وقال ابن القيم رحمه الله:

" شبه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث، لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر.

وشبه القلوب بالأراضي التي وقع عليها المطر، لأنها المحل الذي يمسك الماء، فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته.

ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام، بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده:

أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط ... فهذا مثل الحفاظ الفقهاء، أهل الرواية والدراية.

القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رُزِقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه، ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: (إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه) . والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم تفاوت، فرب شخص يفهم من النص حكما أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب منه وهذا يسقى وهذا يزرع.

فهؤلاء القسمان هم السعداء، والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه، لا حفظا ولا فهما، ولا رواية ولا دراية؛ بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان، لا تنبت ولا تمسك الماء.

وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم، كل بحسب ما قبله ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسا ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهم وقود النار.

فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم وعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم، وتقسم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد.

وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث.

قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس " انتهى.

"مفتاح دار السعادة" (١/٦٥-٦٦) .

فيا أيها الأخ الكريم، أين أنت من ذلك كله، ومن أي أنواع الأرض ـ يا ترى ـ طينتك، أمن التي انتفعت في نفسها، ونفعت الناس، فحفظت وتفقهت، وعملت وعلّمت؟ أمن التي حفظت لغيرها حتى انتفع، والدال على الخير كفاعله؟

إننا نعيذك بالله، ونكرمك عن أن تكون طينتك من الأرض السباخ، فلا أمسكت ولا أنبتت، ولا حفظت ولا تفقهت، ثم هي تقيم نفسها مقام الحكم بين الفريقين!!

انظر في همتك ـ يا عبد الله ـ ووطنها على معالي الأمور، واطلب لها الحفظ والفقه، فإن عجزت عن بعض ذلك، فليس أقل من أن تكون دالا على الخير، حافظا لما أمرت به.

قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

<<  <  ج: ص:  >  >>