[مناقشة شبه مقيمي المولد:]
هذا، وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيوت العنكبوت، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي:
١- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم:
والجواب عن ذلك أن نقول: إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية، وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم، كما قال عروة بن مسعود لقريش: (أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداًُ صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له) البخاري ٣/١٧٨ رقم ٢٧٣١، ٢٧٣٢، الفتح: ٥/٣٨٨، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
٢- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان:
والجواب عن ذلك أن نقول: الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عموماً، وهذا منها، وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة وإن كثروا: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) الأنعام/١١٦، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق.
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم "، والإمام الشاطبي في " الاعتصام "، وابن الحاج في " المدخل "، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألّف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه " صيانة الإنسان "، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
٣- يقولون: إن في إقامة المولد إحياءً لذكرى النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن ذلك أن نقول: إن ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم تتجدد مع المسلم، ويرتبط بها المسلم لكما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في الآذان والإقامة والخطب، وكلما ردد المسلم الشهاتين بعد الوضوء وفي الصلوات، وكلما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته وعند ذكره، وكلما عمل المسلم عملاً صالحاً واجباً أو مستحباً مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه بذلك يتذكره ويصل إليه في الأجر مثل أجر العامل.. وهكذا المسلم دائماً يحيي ذكرى الرسول ويرتبط به في الليل والنهار طوال عمره بما شرعه الله، لا في يوم المولد فقط وبما هو بدعة ومخالفة لسنته، فإن ذلك يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبرأ منه.
والرسول صلى الله عليه وسلم غني عن هذا الاحتفال البدعي بما شرعه الله له من تعظيمه وتوقيره كما في قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) الشرح/٤، فلا يذكر الله عز وجل في أذان ولا إقامة ولا خطبة وإلا يذكر بعده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك تعظيماً ومحبة وتجديداُ لذكراه وحثاً على اتباعه.
والله سبحانه وتعالى لم ينوه في القرآن بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما نوه ببعثته، فقال: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) آل عمران/١٦٤، وقال: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) الجمعة/٢
٤- وقد يقولون: الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم، قصد به التقرب إلى الله!
والجواب عن ذلك أن نقول: البدعة لا تُقبل من أي أحد كان، وحُسن القصد لا يُسوغ العمل السيئ، وموته عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته.
٥- قولهم: إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم!
ويجاب عن ذلك بأن يقال: ليس في البدع شيء حسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أخرجه البخاري ٣/١٦٧ رقم ٢٦٩٧، الفتح ٥/٣٥٥، وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن كل بدعة ضلالة) أخرجه أحمد ٤/١٢٦، والترمذي رقم ٢٦٧٦، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة.
قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين: (فقوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أخرجه البخاري ٣/١٦٧ رقم ٢٦٩٧، الفتح ٥/٣٥٥، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة) انتهي جامع العلوم والحكم، ص ٢٣٣
وليس لهولاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: (نعمت البدعة هذه) صحيح البخاري ٢/٢٥٢ رقم ٢٠١٠ معلقاً، الفتح ٤/٢٩٤
وقالوا أيضاً: أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف، مثل: جمع القرآن في كتاب واحد، وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع فليست محدثة.
وقول عمر: (نعمت البدعة) يريد: البدعة اللغوية لا الشرعية، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه، إذا قيل: إنه بدعة، فهو بدعة لغة لا شرعاُ، لأن البدعة شرعاً ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه.
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن لكن كان مكتوباً متفرقاُ، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظأً له.
والتروايح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تُفرض عليهم، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعاً متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلق إمام واحد كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بدعة في الدين.
وكتابة الحديث أيضاً لها أصل في الشرع، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور، لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فدوّن المسلموت السنة بعد ذلك حفظاً لها من الضياع، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين.
ويقال أيضاً: لماذا تأخر القيام بهذا الشكر على زعمكم فلم يقم يه أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراُ لله عز وجل؟ حاشا وكلا.
٦- قد يقولون: إن الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ينبئ عن محبته فهو مظهر من مظاهرها، وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع!
والجواب أن نقول: لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ولكن ليس معنى ذلك أن تبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل:
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحبّ لمن يحب مطيع
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي إحياء سنته، والعض عليها بالنواجذ، ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين، فإن الدين مبني على أصلين: الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة / ١١٢، فإسلام الوجه لله الإخلاص لله، والإحسان هو التابعة للرسول وإصابة السنة.
٧- ومن شبههم: أنهم يقولون: إن في إحياء ذكرى المولد وقراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة حثاً على الاقتداء والتأسي به!
فنقول لهم: إن قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به مطلوبان من المسلم دائماً طوال السنة وطوال الحياة، أما تخصيص يوم معين لذلك بدون دليل على التخصيص فإنه يكون بدعة " وكل بدعة ضلالة " أخرجه أحمد ٤/١٦٤، والترمذي ٢٦٧٦، والبدعة لا تثمر إلا شراً وبعداً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعيلكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) أخرجه أحمد ٤/١٢٦، والترمذي رقم ٢٦٧٦، فبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في سنة خلفائه الراشدين، إذن فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمّنه هذا الحديث وقد دل عليه قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاًُ) النساء /٥٩
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازل، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي؟ فالواجب على من يغعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله تعالى منه ومن غيره من البدع، فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه.
كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال ص ١٣٩
الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية.