حكم الصلاة مع هؤلاء
[السُّؤَالُ]
ـ[أسكن في قرية فيها مشاكل كثيرة؛ فأهلها يقتتلون فيما بينهم، والإمام يجور على الأراضي، فهل تجوز الصلاة معهم؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال قريتكم هذه، وسائر بلاد المسلمين، وأن يهدي أهلها للتي هي أقوم، وينزع الفتن وكيد الشيطان من بينهم، وأن ييسر لكم الإمام الصالح الذي يقيم بكم الصلاة على ما أمر الله تعالى، ويرشدكم إلى طريق ربكم بقوله وعمله.
ومثل هذا الإمام لا ينبغي توليته تلك الولاية الدينية العظيمة، إمامة الناس في الصلاة، بل ينبغي نهيه عن منكره، وزجره، وهجره إن كان ينتهي عن ظلمه ومنكره بالهجر، وأما ترك الصلاة خلفه، فلا يجوز إلا إذا وجد إمام غيره، أمثل منه في دينه وأبعد عن الظلم والهوى.
وهكذا القول في هؤلاء المصلين من أهل قريتك يجب عليك أن تصلي معهم، ولو كانوا في أنفسهم فُسَّاقا وظلمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وَلَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الإِمَامَ مُبْتَدِعٌ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ، أَوْ فَاسِقٌ ظَاهِرُ الْفِسْقِ، وَهُوَ الإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لا تُمْكِنُ الصَّلاةُ إلا خَلْفَهُ، كَإِمَامِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَالإِمَامِ فِي صَلاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَقَائِدِ: إنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا.
وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إلا إمَامٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَهُ الْجَمَاعَاتُ؛ فَإِنَّ الصَّلاةَ فِي جَمَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ صَلاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الإِمَامُ فَاسِقًا. هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، بَلْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَعْيَانِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد.
وَمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الإِمَامِ الْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ..
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلا يُعِيدُهَا؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الأَئِمَّةِ الْفُجَّارِ وَلا يُعِيدُونَ، كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؛ حَتَّى إنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا مَعَك مُنْذُ الْيَوْمَ فِي زِيَادَةٍ!! وَلِهَذَا رَفَعُوهُ إلَى عُثْمَان ...
وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلاتُهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ؛ فَإِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلاتُهُ، لَكِنْ إنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الصَّلاةَ خَلْفَهُ لأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ، وَمِنْ ذَلِكَ [يعني: ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا لا يُرَتَّبُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الصَّلاةَ خَلْفَهُ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أُثِرَ ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِهِ. فَمِثْلُ هَذَا إذَا تَرَكَ الصَّلاةَ خَلْفَهُ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَفُتْ الْمَأْمُومَ جُمُعَةٌ وَلا جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا إذَا كَانَ تَرَكَ الصَّلاةَ يَفُوتُ الْمَأْمُومَ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَهُنَا لا يَتْرُكُ الصَّلاةَ خَلْفَهُمْ إلا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الإِمَامُ قَدْ رَتَّبَهُ وُلاةُ الأُمُورِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّلاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ، فَهُنَا لَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلاةِ خَلْفَهُ، بَلْ الصَّلَاةُ خَلْفَ الإِمَامِ الأَفْضَلِ أَفْضَلُ. [انظر: مجموع الفتاوى: ٢٣/٣٥٢] .
وقد قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته التي ذكر فيها جملة من أصول أهل السنة:
(ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، ونصلي على من مات منهم.)
وفي هذا المعنى روى أبو داود (٥٩٤) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصَّلاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَاجِبَةٌ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ) [ضعفه لألباني في ضعيف أبي داود]
ومع أن هذا الحديث ليس له إسناد يثبت، كما نقله في عون المعبود عن العقيلي والحافظ ابن حجر، فقد قال الشوكاني رحمه الله: ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين، إجماعاً فعلياً ولا يبعد أن يكون قولياً، على الصلاة خلف الجائرين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير..
وترجم الإمام البخاري في صحيحه: باب إمامة المفتون والمبتدع، ثم روى فيه (٦٩٥) عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: (إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ [أي: أنت إمام الناس] ، وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى، وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ؟! [يعني: نخشى من الحرج، وهو الإثم، في الصلاة معه]
فَقَالَ: الصَّلاةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ظَاهِره أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ فِي الصَّلاة مَعَهُمْ، كَأَنَّهُ يَقُول: لا يَضُرُّك كَوْنُهُ مَفْتُونًا , بَلْ إِذَا أَحْسَنَ فَوَافِقْهُ عَلَى إِحْسَانه وَاتْرُكْ ما افْتُتِن به , وَهُوَ الْمُطَابِق لِسِيَاقِ الْبَاب.
ثم ذكر رواية سيف فِي الْفُتُوح عَنْ سَهْل بْن يُوسُفَ الأَنْصَارِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَرِهَ النَّاس الصَّلاة خَلْفَ الَّذِينَ حَصَرُوا عُثْمَان إِلا عُثْمَان فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى الصَّلاة فَأَجِيبُوهُ. اِنْتَهَى. قال: فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَقْصُوده بِقَوْلِهِ " الصَّلاة أَحْسَن " الإِشَارَة إِلَى الإِذْن بِالصَّلاةِ خَلْفَهُ , وَفِيهِ تَأْيِيد لِمَا فَهِمَهُ الْمُصَنِّف مِنْ قَوْله إِمَام فِتْنَة.
قال الحافظ: وَفِي هَذَا الأَثَر: الْحَضّ عَلَى شُهُود الْجَمَاعَة، وَلا سِيَّمَا فِي زَمَن الْفِتْنَة، لِئَلا يَزْدَادَ تَفَرُّقُ الْكَلِمَة.
وَفِيهِ: أَنَّ الصَّلاة خَلْفَ مَنْ تُكْرَهُ الصَّلاة خَلْفَهُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيل الْجَمَاعَة.
فالحاصل: أنه لا يجوز لك ترك الصلاة مع أهل قريتك، والصلاة منفردا، في بيتك أو في غيره، بل الواجب عليك أن تصلي الجماعة مع الناس، فإن وجدت إماما عدلا صالحا، فلتكن صلاتك معه، وإلا فصل مع الإمام المذكور، ولك صلاته وعليه ظلمه وفجوره.
والله الموفق.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب