للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ليس لك أن تبقى في عمل محرم لفقرك

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا مغترب، وتركت الأهل والوطن للبحث عن لقمة العيش، كنت أعمل في شركة، وبعد فترة طلبت مني الشركة البحث عن كفيل للعمل لديه ونقل كفالتي؛ لأنها ستقوم بتصفية الشركة، وقد جلست مدة ثلاثة أشهر في البحث عن عمل آخر، وأخيراً بعد جهد وعناء ومشقة حصلت على عمل في جهة معينة، وقبل أن أتقدم لهذا العمل استخرت الله وصليت ركعتي الاستخارة وقبل أن يتم نقل الكفالة على هذه الجهة كان أمامي عقبات كثيرة جداً وكنت متوقعاً عدم نقل الكفالة، ولكن تسهَّلت الأمور بشكل لم أتوقعه وتم فعلاً نقل الكفالة، وبعد أن استلمت العمل قال الناس بأن العمل في مثل جهتك يُعدُّ حراماً، وطبعاً أنا لم أعرف ذلك نهائياً من قبل، وأنا حاليا مستقيل من عملي في بلدي، ومن هنا أنا لا أستطيع ترك هذا العمل أو نقل الكفالة على عمل آخر بسبب ليس في يدي، ولكن بسبب الأنظمة المتبعة، وليس لي إلا السفر نهائياً إلى بلدي، ما موقفي من هذا العمل؟ وما رأي سماحتكم في ركعتي الاستخارة؟ وكل ما أرجوه التكرم عليّ بإجابة واضحة.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

"لا ريب أن المؤمن يبتلى في هذه الدنيا، تارة بالأمراض وتارة بالحاجة والفقر، وتارة بتعسر الأعمال التي تعينه على لقمة العيش، وتارة بغير ذلك.

فالواجب على المؤمن عند الابتلاء التحمل والصبر ولزوم الحق والحذر مما حرم الله عزَّ وجلَّ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) .

فعليك يا أخي أن تشكر الله على ما يسر لك من النعمة والسراء، وأن تتحمل الصبر على ما يسوؤك من قلة العمل وصعوبة العمل أو صعوبة لقمة العيش أو غير هذا مما يسوء الإنسان، لابد من الصبر والتحمل وأما استخارتك في عمل اشتبه عليك أمره، هل تعلمه أو لا تعلمه فلا بأس؛ فالاستخارة مشروعة في الأمور التي تشتبه، كأن يريد السفر ويشتبه عليه السفر هل هو صالح أم لا فيستخير، أو يريد الزواج بامرأة من بني فلان فيستخير؛ هل زواجه بها مناسب وطيب أم لا، أو يريد معاملة إنسان في تجارة فيستخير هل معاملته مناسبة أم لا، لا بأس، فهذا العمل الذي استخرت فيه، إذا كان قد اشتبه عليك ولم تعلم أنه مناسب واستخرت الله جل وعلا أن يشرح صدرك لما يرضيه وأن يسهل لك هذا الأمر إن كان صالحاً مباحاً، هذا لا بأس به.

ثم إذا تبين لك بعد ذلك أن العمل غير صالح فلا مانع حينئذ من أن تستقيل وتُؤْثر ما عند الله، بل يجب عليك ذلك، ولكن بعد التثبت بعد سؤال أهل العلم، بعد التصبر، فإذا ظهر لك بالأدلة الشرعية أو بفتوى أهل العلم المعتبرين أن هذا العمل لا يجوز، كالعمل في بنوك الربا، وكالعمل في بيع الخمور وبيع التدخين أو حلق اللحى أو ما أشبه ذلك مما هو محرم، فإذا عرفت أن العمل محرم فاترك العمل، ويعطيك الله أبرك منه، يقول الله سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق/٢، ٣، ويقول سبحانه: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) الطلاق/٤.

وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من ترك شيئاً لله ـ وفي لفظ: من ترك شيئاً اتقاء الله ـ عوضه الله خيرا منه) .

فإذا كان هذا العمل اتضح لك بالأدلة الشرعية أو بفتوى أهل العلم المعتبرين أنه عمل لا يجوز فعليك أن تستقيل منه وتلتمس عملاً آخر، ولا تقول: أنا لا أستطيع، ليس لك أن تعيش من الحرام، بل عليك أن تلتمس الحلال ولو سألت الناس عند الضرورة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ لما سأله: (يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ ـ أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ ـ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ ـ يعني حاجة ـ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ) .

وإذا كنت لست من أهل الغنى السابق، بل أنت من أهل الحاجة، ولست من أهل الثروة، فأنت أعلم بنفسك، تحل لك المسألة من أجل الحاجة والفاقة، ولو ما شهد لك ثلاثة ما دمت تعلم أنك من أهل الفاقة، وليس عندك شيء يقوم بحالك، فلا مانع من أن تسأل ذوي الخير ومن تظن أنهم يستجيبون إما لإعطائك من الزكاة وإما مما أعطاهم الله من المال، حتى تجد ما يغنيك، ولا تلح، بل تسأل ما يسد الحاجة، ومتى حصل ما يسد الحاجة كففت عن السؤال إلى وقت آخر تحتاج فيه، مع طلب العمل والجد في طلب العمل وطلب الرزق بالوسائل والطرق التي تستطيعها مما أباح الله عز وجل، أما أن تبقى في عمل محرم لأنك فقير فليس لك ذلك " انتهى.

سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

"فتاوى نور على الدرب" (٣/١٤٧٠ – ١٤٧٣) .

[الْمَصْدَرُ]

فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

فتاوى نور على الدرب

<<  <  ج: ص:  >  >>