للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

من الأدب ترك سؤال الناس عن أمورهم الخاصة

[السُّؤَالُ]

ـ[الجميع يسألونني وزوجتي عن حملها؟ وهل لدينا أي مشاريع؟ وهل من جديد؟ ومتى موعد الولادة؟ ولا يتوقفون عن التخمين وتوجيه أسئلة من هذا النوع، وأحيانا علناً وبصوت مرتفع، مما يسبب لنا إحراجاً شديدا، حيث إنني وزوجتي شديدا الخجل. ونود أن نسأل: هل يجوز للناس السؤال عن أشياء شديدة الخصوصية مثل هذه، وهل مطلوب منا أن نعلن الحمل، هل هذه مسألة عامة؟ نحن نعتقد أنها مسألة خاصة ونريد أن نحتفظ بخصوصيتها إلى النهاية، وإذا رزقنا الله بطفل فسوف نعلن عن ولادته. ونعتقد أن ذلك يتعارض مع الحياء والخصوصية، وقد تكون له نتائج كثيرة. أحد الإخوة تكدر كثيرا عندما طلبت منه أن لا يسأل، هل يتعين علي أن أخبره أن زوجتي حامل الآن وتنتظر طفلا. أرجو النصيحة مع ذكر المراجع وشكرا.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد للَّه

يتجاوز كثير من الناس الأدب في حديثهم مع الآخرين، ولا يراعون في ذلك خلقا ولا حياء، وسببه الجهل وقلة الاهتمام بالتحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، ومن ذلك ما يقع فيه الكثيرون من التدخل فيما لا يعنيهم، والسؤال عن أمور الناس الخاصة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ) رواه الترمذي (٢٣١٨) وصححه الألباني.

يقول ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (١/١١٤-١١٦) :

" وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال: جماع آداب الخير وأزِمَّتُه تتفرع من أربعة أحاديث:

قول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)

وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له في الوصية: (لا تغضب)

وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)

ومعنى هذا الحديث: أن مَنْ حسُنَ إسلامه تَركَ ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه أن تتعلق عنايته به، وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام.

وفي المسند [١/٢٠١] من حديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه) [قال الأرناؤوط: حسن لشواهده] ...

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه "، وهو كما قال، فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه ولا يتحرى. وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم، فقال: (لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) النساء/١١٤

وخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(كل كلام ابن آدم عليه لا له: إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله عز وجل) [ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي] .

وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري فقال سفيان: وما يعجبكم من هذا؟! أليس قد قال الله تعالى: (لَاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)

وخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال:

توفى رجل من أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: أبشر بالجنة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لا تدري!؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه) صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٣١٠٣)

وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها أنه قتل شهيدا " انتهى باختصار.

ويقول المناوي في "فيض القدير" (٧/٣) :

" يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسئول، فإنه قد لا يؤثر إخباره بأحواله، فإن أخبره شق عليه، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لحقته المشقة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب " انتهى.

وجاء من الآثار عن بعض السلف ما يدل على هذا الأدب:

قال عمرو بن قيس الملائي:

(مر رجل بلقمان والناس عنده فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى. قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى. فقال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني)

وقال مُوَرِّق العِجْلي:

أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة، لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه أبدا، قالوا: وما هو؟ قال: الكف عما لا يعنيني.

رواهما ابن أبي الدنيا

وروى أبو عبيدة عن الحسن البصري قال: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، خذلانا من الله عز وجل.

وفيما سبق دعوة للناس كي يتخلقوا بهذا الأدب العظيم، والخلق الرفيع، ويتعاملوا بينهم بما كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي سادات الأولياء والصالحين.

ولمزيد حول هذا الأدب الرفيع الضائع بين كثير من الناس، يمكن مراجعة شرح الحديث الثاني عشر من جامع العلوم، لابن رجب الحنبلي رحمه الله، وهناك بحث نفيس بعنوان " معلم في تربية النفس: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه " تأليف: عبد الطيف بن محمد الحسن، من سلسلة كتاب البيان، الصادر عن المنتدى الإسلامي في لندن.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>