تفصيل مفيد في صفة " السمع لله تعالى، وفيها بيان سماع الله لخلقه على اختلاف لغاتهم
[السُّؤَالُ]
ـ[هل الله عز وجل يفهم جميع اللغات؟! ولماذا نعاني نحن كل هذه المعاناة في تعلم العربية؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
ليعلم أن الله تعالى جلَّ وعلا ليس كخلْقه، بل له صفات الكمال سبحانه وتعالى، فهو عزَّ وجلَّ قال عن نفسه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى/ من الآية١١.
ومن أصول الإيمان القطعية، التي لا يصح إيمان العبد، ولا معرفته بربه إلا بها: أن يعلم أن الله جل جلاله بكل شيء عليم، بما كان، وبما يكون، وبما لم يكن، يعلم السر وأخفى، لا يشغله شيء عن شيء، ولا صوت عن صوت، ولا خلق عن خلق، السر والعلن عنده سواء:
(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
" بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن السر والجهر عنده سواء، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضاً سواء؛ لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر، ويعلم الخفى كما يعلم الظاهر.
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [٦٧/١٣، ١٤] ، وقوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [٢٠/٧] ، وقوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [١١/٥] ، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الآية [٥٠/١٦] ، إلى غير ذلك من الآيات ". انتهى.
"أضواء البيان" (٢/٢٣٦) .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، كَثِيرَ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا، وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا!!
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} .
رواه البخاري (٤٤٤٣) ومسلم (٤٩٧٩) .
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ اللَّهُ: تَعَالَى حَمِدَنِى عَبْدِى، وَإِذَا قَالَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِى، وَإِذَا قَالَ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، قَالَ هَذَا لِعَبْدِى وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ»
رواه مسلم (٣٩٥) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
فهذا يقوله سبحانه وتعالى لكل مصلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلَّى الرجل ما صلَّى من الركعات قيل له ذلك، وفي تلك الساعة يصلي مَن يقرأ الفاتحة مَن لا يُحصي عددَه إلا الله، وكل واحدٍ منهم يقول الله له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك، فيقول لكل واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة، وكذلك سمعه لكلامهم، يسمع كلامهم كلَّه مع اختلاف لغاتهم، وتفنن حاجاتهم؛ يسمع دعاءَهم سمْع إجابة، ويسمع كل ما يقولونه سمع علم وإحاطة، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين؛ فإنه سبحانه هو الذي خلق هذا كله، وهو الذي يرزق هذا كله، وهو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع.
" مجموع الفتاوى " (٥ / ٤٧٩، ٤٨٠) .
ثانيا:
الله تعالى هو الذي خلق اللغات، وجعل ذلك من آياته تعالى على ربوبيته، وقدرته، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) الروم/ ٢٢؛ وكيف يكون إلهاً، ومعبوداً، وربّاً، وهو لا يعلم ما يقوله عباده؟! إننا نرى فيما يعتاده الناس ويعرفونه: أن صاحب الصنعة هو أدرى الناس بها، وأفضل طريقة لمعرفة نظام جهاز من الأجهزة: أن تراجع كتاب التشغيل الصادر عن مصنعه؛ فكيف بالله جل جلاله، وهو خالق الخلق، وهو علام الغيوب: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك/١٣-١٤.
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
" هذا إخبار من الله بسعة علمه، وشمول لطفه، فقال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} ، أي: كلها سواء لديه، لا يخفى عليه منها خافية، فـ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما فيها من النيات والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعال التي تسمع وترى؟!
ثم قال مستدلا بدليل عقلي على علمه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ؛ فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، الذي لطف علمه وخبره حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا والخفايا والغيوب، وهو الذي {يعلم السر وأخفى} ؟! انتهى.
"تفسير السعدي" (٨٧٦) .
ثالثا:
إذا آمنا بأن الله رقيب على عباده مطلع عليهم، وآمنا بأن الخلق إليه يحشرون، وأنه سيحاسبهم على أعمالهم، فمن ضرورة ذلك: أن نؤمن إيمانا جازما باطلاعه على خلقه، وعلمه بهم:
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) غافر/١٩-٢٠.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سيكلم خلقه يوم القيامة، من غير حجاب ولا ترجمان بينه وبينهم:
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) .
رواه البخاري (٧٠٠٥) ومسلم (١٠١٦) .
وفي رواية للبخاري:
(وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ لَهُ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ فَيَقُولُ بَلَى فَيَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ فَيَقُولُ بَلَى فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهََّمَ) . رواه البخاري (٣٤٠٠) .
رابعاً:
أما تعلم اللغة العربية فالقدر الذي يجب منه: أن تتعلم المقدار الذي تصح به صلاتك وعبادتك، وما زاد على ذلك فهو نافلة مستحبة، أن تتعلم ما يعينك على فهم كتاب الله وسنة نبيه، والتفقه في دينه، ويتأكد ذلك في حق طالب العلم، ويتأكد في حق الشاب القادر على التعلم ما لا يطلب من الشيخ والمرأة الكبيرة، وهكذا كل على حسب طاقته.
قال الإمام الشافعي – رحمه الله -:
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جَهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذِّكر فيما افترض عليه من التكبير، وأُمر به من التسبيح، والتشهد، وغير ذلك.
" الرسالة " (ص ٤٨) .
وأما سبب معاناة كثيرين في تعلم العربية: فلعل ذلك يعود لأسباب كثيرة، منها عدم سلوك الطريق المنهجي المناسب، أو عدم خبرة المعلم بتدريس اللغة لغير أهلها، أو عدم المداومة على استعمال ما تعلمه المتعلم من الألفاظ والأساليب، إلى غير ذلك من الأسباب التي من الممكن أن يستشار فيها المختص، كل على حسب حالته.
ومن الأمور المهمة التي يُنصح بها هنا أن يكثر المتعلم من مخالطة العرب، ومحاولة التكلم معهم بالعربية، خاصة فيما يتعلق بالأمور الدينية والعلمية، فهذا أفضل الطرق لاكتساب اللغات: أن يخالط المرء أهلها، وأن يصبر على تعلمها بهذه الطريقة، لاسيما إذا واكب ذلك دراسة نظرية منهجية، ووفق للإخوة ناصحين له، يعينونه على هذه المخالطة التعليمية، ويعلمونه الجديد، ويصوبونه له الخطأ.
وضع في علمك أن كل شيء يحتاج إلى صبر وبذل، وأنه ليس شيء يصعب على المرء مع الهمة العالية، وسلوك الطريق الصحيح.
والله الموفق
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب