إذا كان القرآن كاملا مكتملا وافيا للشريعة فما الحاجة إلى السنة؟!
[السُّؤَالُ]
ـ[إذا كان القرآن كاملا مكتملا وافيا للشريعة فما الحاجة إلى السنة؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا يزال أعداء الدِّين يحرصون على النيل من دين الله تعالى بشتى الصور والأساليب، وينشرون شبهاتهم وضلالاتهم بين عامة المسلمين، فينساق وراءهم بعض ضعاف الإيمان، والجهلة من المسلمين، ولو أن واحداً من هؤلاء العامة فكَّر قليلاً لعلم أن شبههم خاوية، وأن حجتهم داحضة.
ومن أيسر ما يمكن أن يرد به العامي على هذه الشبهة المتهافتة أن يسأل نفسه: كم ركعة أصلي الظهر؟ وكم هو نصاب الزكاة؟ وهذا سؤالان يسيران، ولا غنى بمسلم عنهما، ولن يجد إجابتهما في كتاب الله تعالى، وسيجد أن الله تعالى أمره بالصلاة، وأمره بالزكاة، فكيف سيطبق هذه الأوامر من غير أن ينظر في السنَّة النبوية؟ إن هذا من المحال، ولذا كانت حاجة القرآن للسنَّة أكثر من حاجة السنَّة للقرآن! كما قال الإمام الأوزاعي - رحمه الله -: " الكتاب أحوج إلى السنَّة من السنَّة إلى الكتاب "، كما في " البحر المحيط " للزركشي (٦ / ١١) ، ونقله ابن مفلح الحنبلي في " الآداب الشرعية " (٢ / ٣٠٧) عن التابعي مكحول.
ولا نظن بالأخ السائل إلا خيراً، ونظن أنه سأل مستفهماً عن أوجه الرد على من يقول بمثل هذه الأقاويل زاعماً تعظيمه للقرآن الكريم.
ثانياً:
من أوجه الرد على من يزعم أنه لا حاجة للمسلمين للسنَّة المشرفة، وأنه يُكتفى بالقرآن الكريم: أنه بهذا القول يرد كلام الله تعالى في كتابه الكريم، حيث أمر في آيات كثيرة بالأخذ بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وبالانتهاء عما نهى عنه، وبطاعته، وقبول حكمه، ومن ذلك:
قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر: من الآية٧.
وقال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور/٥٤.
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) النساء/من الآية٦٤.
وقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء/٦٥.
فماذا يصنع هذا الزاعم المدعي أنه يُكتفى بالقرآن ويُستغنى به عن السنَّة في هذه الآيات؟ وكيف سيستجيب لأمر الله تعالى فيها؟ .
وهذا بالإضافة إلى ما قلناه أولاً باختصار، وهو أنه كيف سيقيم الصلاة التي أمره الله تعالى بها في كتابه الكريم؟ وما عددها؟ وما أوقاتها؟ وما شوطها؟ وما مبطلاتها؟ وقل مثل ذلك في الزكاة، والصيام، والحج، وباقي شعائر الدين وشرائعه.
وكيف سيطبق قول الله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) المائدة/٣٨؟ فكم هو نصاب السرقة؟ ومن أين تُقطع اليد؟ وهل هي اليمين أم الشمال؟ وما هي الشروط في الشيء المسروق؟ ، وقل مثل ذلك في حد الزنا والقذف واللعان وغيرها من الحدود.
قال بدر الدين الزركشي – رحمه الله -:
وقال الشافعي في " الرسالة " - في باب فرض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم -: قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وكل فريضة فرضها الله تعالى في كتابه: كالحج، والصلاة، والزكاة: لولا بيان الرسول ما كنا نعرف كيف نأتيها , ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات , وإذا كان الرسول من الشريعة بهذه المنزلة: كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله.
" البحر المحيط " (٦ / ٧، ٨) .
وكما يرى المسلم العاقل أن الزاعم أنه معظم لكتاب الله تعالى هو من أعظم المخالفين للقرآن، ومن أعظم المنسلخين عن الدين؛ حيث جعل القرآن كافيا لإقامة الدين والأحكام، وهو بالضرورة إما أنه لا يفعل ما جاء بالسنة فيكفر، أو أنه يفعلها فيتناقض!
ثالثاً:
والله تعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسلام، وهذه النعمة العظيمة ليست القرآن وحده، بل هي القرآن والسنَّة، ولما امتنَّ الله على الأمة بإتمام الدين وإكمال النعمة لم يكن المقصود منه إنزال القرآن، بل إتمام الأحكام في القرآن والسنَّة، بدليل نزول آيات من القرآن الكريم بعد إخبار الله تعالى بمنته على عباده بإكمال الدين وإتمام النعمة.
قال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) المائدة/من الآية٣.
قال بدر الدين الزركشي – رحمه الله -:
قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) أي: أكملت لكم الأحكام، لا القرآن؛ فإنه نزل بعد ذلك منه آيات غير متعلقة بالأحكام.
" المنثور في القواعد " (١ / ١٤٢) .
وقال ابن القيم – رحمه الله -:
فقد بيَّن الله - سبحانه - على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمره به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه , وبهذا يكون دينُه كاملا كما قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) .
" إعلام الموقعين " (١ / ٢٥٠) .
رابعاً:
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن السنَّة التي جاء بها هي مثل القرآن في كونها من الله تعالى، وفي كونها حجة، وفي كونها ملزمة للعباد، وحذَّر من الاكتفاء بما في القرآن وحده للأخذ به والانتهاء عن نهيه، وبيَّن مثالاً لحرامٍ ثبت في السنَّة ولم يأت له ذِكر في القرآن، بل في القرآن إشارة لحلِّه، وكل ذلك في حديث واحدٍ صحيح.
عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ) .
رواه أبو داود (٤٦٠٤) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود.
وهذا الذي فهمه الصحابة رضي الله من دين الله تعالى:
عن عبد الله قال: " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، قال: لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه؛ أما قرأت: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر/٧؟ ، قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه، قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً، فقال: لو كانتْ كذلك ما جامعَتنا.
رواه البخاري (٤٦٠٤) ، ومسلم (٢١٢٥) .
وهو الذي فهمه التابعون وأئمة الإسلام من دين الله تعالى، ولا يعرفون غيره، أنه لا فرق بين الكتاب والسنَّة في الاستدلال والإلزام، وأن السنَّة مبينة ومفسرة لما في القرآن.
قال الأوزاعي عن حسان بن عطية: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنَّة تفسر القرآن.
وقال أيوب السختياني: إذا حدَّث الرجل بالسنَّة فقال: دعنا من هذا، حدِّثنا من القرآن: فاعلم أنه ضال مضل.
وقال الأوزاعي: قال الله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ، وقال (وما آتاكم الرسول فخذوه) .... .
وقال الأوزاعي: قال القاسم بن مخيمرة: ما توفي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام: فهو حرام إلى يوم القيامة , وما توفي عنه وهو حلال: فهو حلال إلى يوم القيامة.
انظر: " الآداب الشرعية " (٢ / ٣٠٧) .
قال بدر الدين الزركشي – رحمه الله -:
قال الحافظ الدارمي: يقول: (أوتيت القرآن , وأوتيت مثله) : من السنن التي لم ينطق بها القرآن بنصه , وما هي إلا مفسرة لإرادة الله به , كتحريم لحم الحمار الأهلي , وكل ذي ناب من السباع , وليسا بمنصوصين في الكتاب.
وأما الحديث المروي من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن , فقال الشافعي في " الرسالة ": " ما رواه أحد ثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير " , وقد حكم إمام الحديث يحيى بن معين بأنه موضوع , وضعته الزنادقة، قال ابن عبد البر في كتاب " جامع بيان العلم ": قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله , فإن وافق كتاب الله فأنا قلته , وإن خالف فلم أقله) ، قال الحافظ: وهذا لا يصح , وقد عارضه قوم , وقالوا: نحن نعرضه على كتاب الله فوجدناه مخالفا للكتاب ; لأنا لم نجد فيه: لا يقبل من الحديث إلا ما وافق الكتاب , بل وجدنا فيه الأمر بطاعته , وتحذير المخالفة عن أمره حكم على كل حال. انتهى.
وقال ابن حبان في " صحيحه " في قوله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) : فيه دلالة على أن السنَّة يقال فيها: آي.
" البحر المحيط " (٦ / ٧، ٨) .
خامساً:
قد ذكر العلماء أوجهاً لبيان السنة للقرآن، ومنها: أنها تأتي موافقة لما في القرآن، وتأتي مقيدة لمطلقه، ومخصصة لعمومه، ومفسرة لمجمله، وناسخة لحكمه، ومنشئة لحكم جديد، وبعض العلماء يجمع ذلك في ثلاث منازل.
قال ابن القيم - رحمه الله -:
والذي يجب على كل مسلم اعتقاده: أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنَّة واحدة تخالف كتاب الله، بل السنن مع كتاب الله على ثلاث منازل:
المنزلة الأولى: سنَّة موافقة شاهدة بنفس ما شهد به الكتاب المنزل.
المنزلة الثانية: سنَّة تفسر الكتاب، وتبين مراد الله منه، وتقيد مطلقه.
المنزلة الثالثة: سنَّة متضمنة لحكم سكت عنه الكتاب، فتبيِّنه بياناً مبتدأً.
ولا يجوز رد واحدة من هذه الأقسام الثلاثة، وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة.
وقد أنكر الإمام أحمد على من قال " السنة تقضي على الكتاب " فقال: بل السنَّة تفسر الكتاب وتبينه.
والذي يشهد الله ورسوله به أنه لم تأت سنَّة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض كتاب الله وتخالفه ألبتة، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله، وعليه أنزل، وبه هداه الله، وهو مأمور باتباعه، وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده؟! .
ولو ساغ رد سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن، وبطلت بالكلية.
وما من أحد يُحتج عليه بسنَّة صحيحة تخالف مذهبه ونحلته إلا ويمكنه أن يتشبث بعموم آية، أو إطلاقها، ويقول: هذه السنة مخالفة لهذا العموم والإطلاق فلا تقبل.
حتى إن الرافضة قبحهم الله سلكوا هذا المسلك بعينه في رد السنن الثابتة المتواترة، فردوا قوله صلى الله عليه وسلم (لا نُورث ما تركنا صدقة) وقالوا: هذا حديث يخالف كتاب الله، قال تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) .
وردت الجهمية ما شاء الله من الأحاديث الصحيحة في إثبات الصفات بظاهر قوله (ليس كمثله شيء) .
وردت الخوارج من الأحاديث الدالة على الشفاعة، وخروج أهل الكبائر من الموحدين من النار بما فهموه من ظاهر القرآن.
وردت الجهمية أحاديث الرؤية مع كثرتها وصحتها بما فهموه من ظاهر القرآن في قوله تعالى (لا تدركه الأبصار) .
وردت القدرية أحاديث القدر الثابتة بما فهموه من ظاهر القرآن.
وردت كل طائفة ما ردته من السنة بما فهموه من ظاهر القرآن.
فإما أن يطرد الباب في رد هذه السنن كلها، وإما أن يطرد الباب في قبولها، ولا يرد شيء منها لما يفهم من ظاهر القرآن، أما أن يرد بعضها ويقبل بعضها - ونسبة المقبول إلى ظاهر القرآن كنسبة المردود -: فتناقض ظاهر.
وما مِن أحد رد سنَّة بما فهمه من ظاهر القرآن إلا وقد قبل أضعافها مع كونها كذلك.
وقد أنكر الإمام أحمد والشافعي وغيرهما على من ردَّ أحاديث تحريم كل ذي ناب من السباع بظاهر قوله تعالى (قل لا أجد في ما أوحى إليَّ محرماً) الآية.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من رد سنَّته التي لم تذكر في القرآن، ولم يدَّعِ معارضة القرآن لها: فكيف يكون إنكاره على من ادعى أن سنَّته تخالف القرآن وتعارضه؟ .
" الطرق الحكمية " (٦٥ – ٦٧) .
وللشيخ الألباني – رحمه الله - رسالة بعنوان " منزلة السنة في الإسلام، وبيان أنه لا يستغنى عنها بالقرآن "، وفيها:
تعلمون جميعاً أن الله تبارك وتعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بنبوته، واختصه برسالته، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم، وأمره فيه - في جملة ما أمره به - أن يبينه للناس، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم) النحل/٤٤، والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة يشتمل على نوعين من البيان:
الأول: بيان اللفظ ونظمه، وهو تبليغ القرآن، وعدم كتمانه، وأداؤه إلى الأمة، كما أنزله الله تبارك وتعالى على قلبه صلى الله عليه وسلم، وهو المراد بقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك) المائدة/٦٧، وقد قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في حديث لها " ومن حدثك أن محمداً كتم شيئاً أُمر بتبليغه: فقد أعظم على الله الفرية "، ثم تلت الآية المذكورة " - أخرجه الشيخان -، وفي رواية لمسلم: " لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً أُمر بتبليغه لكتم قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) الأحزاب/٣٧.
والآخر: بيان معنى اللفظ، أو الجملة، أو الآية الذي تحتاج الأمة إلى بيانه، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المجملة، أو العامة، أو المطلقة، فتأتي السنَّة، فتوضح المجمل، وتُخصِّص العام، وتقيِّد المطلق، وذلك يكون بقوله صلى الله عليه وسلم، كما يكون بفعله وإقراره.
وقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة/٣٨، مثال صالح لذلك، فإن السارق فيه مطلقٌ كاليد، فبينتِ السنَّة القوليَّة الأول منهما، وقيدته بالسارق الذي يسرق ربع دينارٍ بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً) - أخرجه الشيخان -
كما بينتِ الآخَرَ بفعله صلى الله عليه وسلم أو فعل أصحابه وإقراره، فإنهم كانوا يقطعون يد السارق من عند المفصل، كما هو معروف في كتب الحديث، وبينت السنة القوليَّة اليد المذكورة في آية التيمم: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) النساء/٤٣ والمائدة /٦ بأنها الكف أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (التيمم ضربة للوجه والكفين) أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما.
وإليكم بعض الآيات الأخرى التي لم يمكن فهمها فهماً صحيحاً على مراد الله تعالى إلا من طريق السنة:
١. قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأنعام /٨٢، فقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله (بظلم) على عمومه الذي يشمل كل ظلم ولو كان صغيراً، ولذلك استشكلوا الآية فقالوا: يا رسول الله أيُّنا لم يلبس أيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس بذلك، إنما هو الشرك؛ ألا تسمعوا إلى قول لقمان: (إن الشرك لظلم عظيم) لقمان/١٣؟) أخرجه الشيخان وغيرهما.
٢. قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) النساء/١٠١، فظاهر هذه الآية يقتضي أن قصر الصلاة في السفر مشروط له الخوف، ولذلك سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما بالنا نقصر وقد أَمِنَّا؟ قال: (صدقة تصدَّق الله بها عليكم فقبلوا صدقته) - رواه مسلم -.
٣. قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم) المائدة/٣، فبينت السنة القولية أن ميتة الجراد والسمك، والكبد والطحال، من الدم حلال، فقال صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: الجراد والحوت - أي: السمك بجميع أنواعه -، والكبد والطحال) - أخرجه البيهقي وغيره مرفوعاً وموقوفاً، وإسناد الموقوف صحيح، وهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قِبَلِ الرأي -.
٤. قوله تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي مُحرَّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً، أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به) الأنعام/١٤٥، ثم جاءت السنَّة فحرمت أشياء لم تُذكر في هذه الآية، كقوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير حرام) ، وفي الباب أحاديث أخرى في النهي عن ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الإنسية؛ فإنها رجس) - أخرجه الشيخان -.
٥. قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الأعراف/٣٢، فبينت السنة أيضاً أن من الزينة ما هو محرم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً على أصحابه وفي إحدى يديه حرير، وفي الأخرى ذهب، فقال: (هذان حرام على ذكور أمتي، حلٌّ لإناثهم) - أخرجه الحاكم وصححه -.
والأحاديث في معناه كثيرة معروفة في " الصحيحين " وغيرهما، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المعروفة لدى أهل العلم بالحديث والفقه.
ومما تقدم يتبين لنا - أيها الإخوة - أهمية السنَّة في التشريع الإسلامي، فإننا إذا أعدنا النظر في الأمثلة المذكورة - فضلا عن غيرها مما لم نذكر - نتيقن أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم فهماً إلا مقروناً بالسنَّة.
" منزلة السنة في الإسلام " (ص ٤ – ١٢) .
وننصح بالرجوع إلى رسالة الشيخ الألباني – رحمه الله – فهي في صلب موضوع السؤال.
وبه يتبين:
أنه لا يحل لأحدٍ أن يفصل القرآن عن السنَّة في إثبات الأحكام ولزومها للمكلَّف، وأن من فعل ذلك فهو من أعظم المخالفين لما في القرآن من أوامر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنَّته والانتهاء عن نهيه، وأن السنَّة النبوية جاءت مؤيدة لما في القرآن وموضحة له ومقيدة لمطلقه ومخصصة لعمومه، وجاءت كذلك مستقلة في إنشاء الأحكام، وكل ذلك لازم للمسلم الأخذ به.
وأمر أخير:
هب أننا نعدُّ هذا تنازعاً بيننا وبين خصومنا الذين يرون الاكتفاء بالقرآن: فإننا نقول: إننا أُمرنا في القرآن الكريم عند التنازع أن نرجع إلى القرآن والسنَّة! فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) النساء/٥٩، فماذا هو صانعٌ خصمنا بهذه الحجة القرآنية؟ إن قبلها: رجع إلى السنَّة فبطل قوله، وإن لم يرجع: فقد خالف القرآن الذي يزعم أنه كافٍ عن السنَّة.
والحمد لله رب العالمين
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب