هل يجوز لطالب العلم أن يأخذ أجرة على مؤلفاته وأشرطته ودروسه في الفضائيات؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم أخذ الداعية أجراً مقابل مصنفاته، وأشرطته، وإلقائه الدروس عبر القنوات الفضائية؟ وهل الحكم يختلف باختلاف النية بحيث تكون الأولى من أجل الكسب فقط، والثانية نفع الأمة لكن يحصل الكسب؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
تأليف الكتب، وإنتاج الأشرطة يعتبران من الحقوق الخاصة بأصحابها، وهي حقوق مصونة في الشرع، فلا يجوز الاعتداء عليها بالنسخ، أو الطباعة، أو الإنتاج، من غير إذن أصحابها، ولا حرج على أصحابها في طلب مبالغ مقابلها.
وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم: (٢١٨٩٩) قرار " مجلس الفقه الإسلامي ": أن حقوق التأليف، والاختراع، أو الابتكار: مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.
ثانياً:
أما أخذ الداعية، أو العالِم مالاً مقابل تعليمه الناس الأحكام الشرعية، أو كيفية قراءة القرآن، في المساجد، أو المدارس، أو الفضائيات: فإن كان ما يُعطاه من بيت مال المسلمين [أموال الدولة] : فلا خلاف في جوازه، وإن كان يُعطاه من غيره: فللعلماء فيه أقوال ثلاثة:
١. الجواز، وهو قول جمهور العلماء، من المالكية، والشافعية، وبه قال متأخرو الحنفية، وهو الذي يرجحه الشيخان ابن باز، والعثيمين، رحمهما الله، وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء.
٢. المنع، وهو قول المتقدمين من الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد.
٣. الجواز للحاجة [كما لو كان العالم فقيراً محتاجاً إلى المال] ، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقد مال إلى القول به: شيخ الإسلام ابن تيمية.
جاء في " الموسوعة الفقهية " (١٣ / ١٤ – ١٦) :
"لا خلاف بين الفقهاء في جواز أخذ الرِّزق من بيت المال على تعليم القرآن، وتدريس علم نافع، من حديث، وفقه، ونحوهما؛ لأن هذا الرزق ليس أجرة من كل وجه، بل هو كالأجرة.
وإنما اختلفوا في الاستئجار لتعليم القرآن، والحديث، والفقه، ونحوهما من العلوم الشرعية: فيرى متقدمو الحنفية - وهو المذهب عند الحنابلة - عدم صحة الاستئجار لتعليم القرآن، والعلم الشرعي، كالفقه، والحديث؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: علمتُ ناسا من أهل الصفَّة القرآن، والكتابة، فأهدى إليَّ رجل منهم قوساً، قال: قلت: قوس، وليس بمال، قال: قلت: أتقلدها في سبيل الله، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وقصصت عليه القصة، فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إليَّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله، قال: (إن كنتَ تحبُّ أن تُطوَّق طوقاً من نارٍ فَاقْبَلْها) ؛ وحديث أبي بن كعب رضي الله عنه، أنه عَلَّم رجلا سورة من القرآن، فأهدى له خميصة، أو ثوبا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنَّكَ لَوْ لَبِسْتَها لأَلْبَسَك الله مَكَانَها ثَوْباً مِن نارٍ) ؛ ولأنه استئجار لعمل مفروض، فلا يجوز، كالاستئجار للصوم والصلاة ... ؛ ولأن الاستئجار على تعليم القرآن والعلم سبب لتنفير الناس على تعليم القرآن والعلم؛ لأن ثقل الأجر يمنعهم من ذلك، وإلى هذا أشار الله جل شأنه في قوله عز وجل: (أََمْ تَسْأَلهُم أَجْراً فَهُم من مغْرَمٍ مُثْقَلُون) فيؤدي إلى الرغبة عن هذه الطاعة، وهذا لا يجوز.
وذهب متأخرو الحنفية - وهو المختار للفتوى عندهم - والمالكية في قول، وهو القول الآخر عند الحنابلة - يؤخذ مما نقله أبو طالب عن أحمد - إلى جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه، لخبر: (إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب الله) ؛ ولما روي عن عبد الجبار بن عمر أنه قال: (كل من سألت من أهل المدينة لا يرى بتعليم الغلمان بالأجر بأساً) ؛ ولأن الحفاظ، والمعلمين - نظراً لعدم وجود عطيات لهم في بيت المال - ربما اشتغلوا بمعاشهم، فلا يتفرغون للتعليم حسبة، إذ حاجتهم تمنعهم من ذلك، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر: لذهب العلم، وقلَّ حفاظ القرآن.
والمذهب عند المالكية: جواز الاستئجار على تعليم القرآن، أما الإجارة على تعليم الفقه وغيره من العلوم، كالنحو والأصول والفرائض فإنها مكروهة عندهم.
وفرَّق المالكية بين جواز الإجارة على تعليم القرآن، وكراهتها على تعليم غيره: بأن القرآن كله حق لا شك فيه، بخلاف ما عداه مما هو ثابت بالاجتهاد، فإن فيه الحق والباطل، وأيضا فإن تعليم الفقه بأجرة ليس عليه العمل، بخلاف القرآن، كما أن أخذ الأجرة على تعليمه يؤدي إلى تقليل طالبه.
وذهب الشافعية - على الأصح - إلى جواز الاستئجار لتعليم القرآن، بشرط تعيين السورة والآيات التي يعلمها، فإن أخل بأحدهما لم يصح، وقيل: لا يشترط تعيين واحد منهما، أما الاستئجار لتدريس العلم: فقالوا: بعدم جوازه إلا أن يكون الاستئجار لتعليم مسألة، أو مسائل مضبوطة، فيجوز" انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونحوه: كان فيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد، وغيره، أعدلها: أنه يباح للمحتاج.
قال أحمد: أجرة التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان.
" مجموع فتاوى ابن تيمية " (٣٠ / ١٩٢، ١٩٣) .
وأدلة الجواز قوية، لا يمكن دفعها، كحديث الصحيحين: (إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتم عَلَيْهِ أَجْراَ كِتَاب الله) ، وكذا حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم صحابيّاً على تعليم امرأته القرآن.
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
"يجوز لك أن تأخذ أجراً على تعليم القرآن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوَّج رجلا امرأة بتعليمه إياها ما معه من القرآن، وكان ذلك صداقها، وأخذ الصحابي أجرة على شفاء مريض كافر بسبب رقيته إياه بفاتحة الكتاب، وقال في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) أخرجه البخاري ومسلم، وإنما المحظور: أخذ الأجرة على نفس تلاوة القرآن، وسؤال الناس بقراءته" انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود.
" فتاوى اللجنة الدائمة " (١٥ / ٩٦) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
"لا حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وتعليم العلم؛ لأن الناس في حاجة إلى التعليم؛ ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك، ويعطله التعليم عن الكسب , فإذا أخذ أجرة على تعليم القرآن، وتحفيظه، وتعليم العلم: فالصحيح أنه لا حرج في ذلك ... ثم استدل بحديث أخذ الأجرة على الرقية ... ثم قال: وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) رواه البخاري في الصحيح أيضاً , فهذا يدل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم، كما جاز أخذها على الرقية.
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " (٥ / ٣٦٤، ٣٦٥) .
ثالثاً:
أما ما استدل به المانعون: فحديث عبادة بن الصامت وحديث أبي بن كعب رضي الله عنهما قد ضعفهما بعض أهل العلم:
قال ابن عبد البر رحمه الله:
وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم؛ لأنه روي عن عبادة من وجهين، وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي بن كعب، وهو منقطع.
وليس في هذا الباب حديث يجب به حجة من جهة النقل، والله أعلم.
" التمهيد " (٢١ / ١١٤) .
وقال ابن بطَّال رحمه الله:
"واحتجوا بأحاديث ضعاف، منها: حديث عبادة بن الصامت ...
وأما قول الطحاوى: إن تعليم الناس القرآن بعضهم بعضاً فرض: فغلط؛ لأن تعلم القرآن ليس بفرض، فكيف تعليمه؟! وإنما الفرض المتعين منه على كل أحد: ما تقوم به الصلاة، وغير ذلك: فضيلة، ونافلة، وكذلك تعليم الناس بعضهم بعضاً الصلاة ليس بفرض متعين عليهم، وإنما هو على الكفاية، ولا فرق بين الأجرة على الرقَى، وعلى تعليم القرآن؛ لأن ذلك كله منفعة.
وقوله عليه السلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) هو عام يدخل فيه إباحة التعليم وغيره، فسقط قولهم" انتهى باختصار.
" شرح صحيح البخاري " (٦ / ٤٠٥، ٤٠٦) .
رابعاً:
أما ضابط النية في تحصيل الأجر الأخروي مع الدنيوي: فهو ما قاله بعض الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من التفريق بين من يقوم بالعمل الصالح ليأخذ الأجر، وبين من يأخذ ليقوم به، فالأول فعله حسن، والثاني: ليس له في الآخرة أجر، وإنما أخذ أجره في الدنيا، والأول يقصد الدين، والمال وسيلة له، والثاني يقصد المال، والدين وسيلة له، وشتان ما بينهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وجماع هذا: أن المستحب: أن يأخذ ليحج، لا أن يحج ليأخذ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح، فمن ارتزق ليتعلم، أو ليعلِّم، أو ليجاهد: فحسن، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون أجورهم مثل أم موسى ترضع ابنها، وتأخذ أجرها) ، شبههم بمن يفعل الفعل لرغبة فيه كرغبة أم موسى في الإرضاع، بخلاف الظئر (المرضعة) المستأجر على الرضاع إذا كانت أجنبية.
وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق: فهذا من أعمال الدنيا، ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده، والدين وسيلة، والأشبه: أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق، كما دلت عليه نصوص، ليس هذا موضعها.
" مجموع الفتاوى " (٢٦ / ١٩، ٢٠) .
فالوصية لأهل العلم وطلَاّبه أن يقصدوا في خروجهم على الفضائيات: تعليم الناس، ورفع الجهل عنهم، ونشر الاعتقاد الصحيح، ومن أغناه الله من فضله فليستعفف عن المال، ومن احتاج فليأخذ ما يتيسر له دون اشتراط مبالغ باهظة، وليجعل المال وسيلة له، لا غاية، حتى لا يُحرم الأجر الأخروي.
والوصية للمؤلفين، والخطباء، والمدرسين، أن يراعوا أحوال الناس، وأن لا يبالغوا في حقوق الطبع، والتأليف، والتوزيع، وليكن على بالهم الأجور الأخروية، والثواب الجزيل من الله لمن نشر علماً، أو رفع جهلاً، والفوز برضا الله وثوابه لا يعدله شيء.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب