شكوى على والدها الملتزم أنه يسيء إلى أهل بيته ويحسن للزوجة الثانية!
[السُّؤَالُ]
ـ[ي عن الأب الذي يهمل أولاده وبيته، ويبخل عليهم بكل شيء، وكلما طلبنا منه شيئاً قال: " ليس لديَّ مال، ما عندي شيء "، وبيته متهالك، وقديم، ويحتاج إلى تجديد، بالإضافة إلى سوء حالة الأثاث، وحتى ثياب أبنائه رثة، ورخيصة، وكلما طلبوا منه شيئاً يقول: " ثوب واحد يكفي، الإسراف حرام، وأنا مش جالس على بنك "، والأكل يتركهم يطبخون الأرز بدون إيدام، وإذا جاءه الضيوف ذبح، ووضع كل أنواع الأكل للضيوف! وأولاده وبيته يحرِّم عليهم الأكل الطيب، ويشك في بناته مع أنهن عفيفات، وشريفات، ويفتش في أغراضهن، وجوالاتهن، وحتى أم عياله لا يحترمها، ولا يقدرها، وحارمها من أهلها، حتى إن أمها، وأباها توفوا ولم ترهم! والمصيبة أن الأب مطوَّع (ملتزم) ! ويعتكف في المساجد، ويقيم حلقات الذِّكر في المساجد، لكن خارج البيت يضحك، ويسولف، ودمه خفيف، وعندما يدخل البيت ينكِّد على أهل بيته، ويغثهم بكلامه الجارح، ومعاملته السيئة، وفوق هذا كله تزوج الثانية، وبنى لها بيتاً كبيراً جدّاً - ٣ طوابق -، وديكور، وأثاث، ولو ترى بيت زوجته الأولى تقول: بيت فقراء، أنا الذي يقهرني أنه مقتدر، وعنده المال، ويبخل علينا، أنا مقهورة على كل السنين التي راحت، وهو يلبسنا أرخص ملابس، ونعيش في بيت حالته سيئة جدّاً، وكأنه بيت إنسان فقير ومحتاج، ولما تزوج الثانية عمل لها كل شيء راقي، لماذا خرجت أمواله الآن عندما تزوج، ونحن عياله، وبناته يوم كنَّا نطلب يقول: " ما عندي، أنتم طلباتكم ما تخلص، أزعجتوني، لا تطلبون مني شيئاً، أنا مش جالس على بنك "، والله - يا شيخ - أني كرهت أهل المساجد! والملتزمين! بسببه، وأحس أنهم كلهم ظالمون، ومنافقون مثله، وحتى إنني في بعض المرات لا أصلي، وأقول: " يا رب نحن عمرنا ما عملنا شيئاً يغضبك، ونعيش صح، ونخاف الله، وهذا حالنا؟ والناس العاصون والذين ما يخافون الله مرتاحون في حياتهم؟ " حتى أبي كرهته، وعرفت أنه ما يحبنا، ومعيِّشنا طول عمرنا في حاجه للناس حتى أيام المدرسة كانت أمي تطلب ملابس وقمصان بنت الجيران القديمة لنلبسها؛ لأن أبي ما يشتري لنا، الآن ما أسلم عليه، ولا أقبِّل رأسه مثل الأول، وأكلمه بجفاء، ولا أجلس معه لأني أحس أنه ما يحبنا، ويكرهنا. أرجوك تقرأ موضوعي كله، وتقول لي كيف أتصرف لأن نفسيتي تعبت، وما أعرف كيف أتصرف، وجزاك الله خيراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن ما يراه المسلم من تصرفات بعض الملتزمين لا ينبغي أن ينعكس عليه هو، ويؤثر في دينه واستقامته؛ لأن كل بني آدم خطَّاء، وعلى المسلم أن يساهم في تكثير النماذج الطيبة الصالحة في هذه الطائفة من الناس، لا أن يتخلى عنهم، ويتتبع عوراتهم، وينشر نقائصهم، وهذا غاية ما يحرص عليه أبالسة الإنس والجن، عندما يشيعون تصرفات بعض الملتزمين السيئة، سواء كانت صحيحة في أصلها، أو هي عليهم مفتراة: أن يصدوا الناس بذلك عن دين الله عز وجل، وأن يجعلوهم فتنة لغيرهم.
ثانيا:
كما نحذر السائلة – وغيرها – من التسخط على قدر الله، والطعن في حكمته تعالى، ففي سؤالها جملة يُفهم من ظاهرها الاعتراض على الله في تقديره، والطعن في حكمته عز وجل، فهي تظن أن المسلم إن كان يخشى ربه، ويتقيه أنه سيعيش أبد عمره في سعادة، وهناء، وأن حال الشقاء والهموم والغموم إنما هي من نصيب العصاة! وهذا ليس بصحيح شرعاً، ولا هو واقع فعلاً، قال تعالى: (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كلَاَّ) الفجر/ ١٥ – ١٧.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
بيَّن سبحانه أنه ليس كل مَن ابتلاه في الدنيا يكون قد أهانه، بل هو يبتلي عبده بالسراء والضراء، فالمؤمن يكون صبَّاراً شكوراً، فيكون هذا، وهذا: خيراً له، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) .
" مجموع الفتاوى " (٨ / ٧٥) . فالابتلاء للطائعين يحصل كثيراً، وكثيراً ما يُعاقب العصاة بضيق صدر، وبهموم وغموم، فضلاً عن العقوبات في أبدانهم.
والمسلم يعلم أنه قد يفتن في دنياه، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ.وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت/ ٢،٣.
والمسلم يعلم أنه يتقلب بين السراء والضرَّاء، فعَنْ صُهَيْبٍ الرُّومي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم (٢٩٩٩) .
فلا عجب بعد أن يعلم المسلم هذا أن يصيبه الله بضرٍّ، أو يعرضه لفتنة، وفي كل ذلك حكَم لله جليلة، ومصالح للمسلم عظيمة.
ثم كيف تغير السائلة معاملتها مع والدها إلى السيء، وتكره المصلين في المساجد، وتترك الصلاة أحياناً: ثم ترى أنها تستحق النعيم، والسعادة في حياتها؟ بل وتقول ": " يا رب نحن عمرنا ما عملنا شيئاً يغضبك، ونعيش صح، ونخاف الله، وهذا حالنا؟ والناس العاصون والذين ما يخافون الله مرتاحون في حياتهم؟ " فأين الصح مع هذه المعاصي، وهي تدور بين كونها كبائر، وكفر مخرج من الملة؟! .
فإنك إن كنتِ محسنة في فعالك: كان ما يصيبكم ابتلاء من الله، فعليكم الصبر، وإن كنتِ مسيئة مع الناس ومع الله: كان ما أصابك عقوبة من الله على ذلك، فاتركي تلك المعاصي، وأقبلي على الطاعات، واعلمي أن الله تعالى لا يقدِّر شيئاً إلا لحكمة بالغة.
ثالثا:
ما ذكرته السائلة عن والدها إن صحَّ عنه: فهو في غاية السوء، وإن عليه أن يتوب منه، وأن يصلح ما بينه وبين ربِّه، وإن عليه أن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، فيعدل بين زوجتيه – وينظر في العدل الواجب عليه جواب السؤال رقم: (١٠٠٩١) -، وينفق على أهل بيته بالمعروف، فلا يسرف، ولا يقتِّر، وعليه أن يتقي الله في اتهامه بناته بما ليس فيهن، وما يفعله من مخالفات ليس بين أحدٍ من أهل الإسلام فيها اختلاف، بل كلها معاصٍ متفق على قبحها، وسوئها، وتعريض صاحبها لوعيد الله تعالى.
وعليكِ أنتِ أن تصبري على بخل والدك، وأذيته، وسوء فعاله، وعليك مداومة تذكيره بما أوجب الله عليه من تحمل الأمانة، ومن العناية والرعاية بأهل بيته، وعليكم نصحه بأن لا يكون ذا وجهين، وأن أهله أولى من غيرهم أن يتبسط معهم، ويُسعدهم، وإن استمر على عدم تغيير حاله للأفضل: فيمكنكم تكليم شيوخه، وعقلاء أصدقائه في الدعوة، لينصحوه، ويوجهوه نحو الأفضل في التعامل مع أهل بيته، ومثل هؤلاء قد عُرف عنهم حسن التعامل مع الناس، والصبر على أذيتهم، بل وضررهم، فالطريق إلى قلوبهم، وعقولهم: سهل، ويسير، ويُرجى أن يكون نافعاً فيهم أكثر من غيرهم.
واعلمي أن لأبيك عليك حقّاً في الاحترام، والتقدير، وإن أساء إليكم ما أساء؛ فمن عصى الله فيك، وأساء إليك، فأطيعي الله ـ أنت ـ فيه، وأحسني إليه، كما قال الله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت /٣٤؛ فكيف إذا كان هذا المسيء بينك وبينه رحم؟ فكيف إذا كان أباك؟ واستعيني بالله تعالى ربكم، بطاعته، ودعائه، أن يهديه، ويصلح باله، ويوفقه، وأن يجمع بينكم جميعاً على طاعة، وخير.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب