للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حديث موضوع في فضل التقاط الطعام الملقى على الأرض

[السُّؤَالُ]

ـ[هناك حديث ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "من التقط لقمة وقعت منه على الأرض أثناء الطعام فسوف يهبه الله أطفالاً رائعين جدًا ". فهل هذا الحديث صحيح ومن الكتب المحققة؟ وإن كان صحيحًا فما التفسير العلمي لهذا الحديث (أقصد ما العلاقة بين التقاط الطعام والأطفال الرائعين؟)

[الْجَوَابُ]

أولا:

جاءت الشريعة المطهرة باحترام النعم، وشكر المنن، وتقدير الخير الذي يسخره سبحانه وتعالى للناس.

والطعام من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، جعل فيه حياته وقوته، كما جعل فيه لذته، ولذلك أمر بالحمد بعد تناوله، والشكر على إحسانه به.

يقول الله عز وجل:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) البقرة/١٧٢

وقال سبحانه:

(فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) النحل/١١٤

وقال سبحانه:

(لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) يس/٣٥

ولا شك أن من شكر نعمة الطعام احترامها وعدم إلقائها، ورفعها عن مواضع الإهانة والقذارة، وحفظها عن ما يفسدها.

يقول المناوي في "فيض القدير" (١/١٩١) :

" حسن الجوار لنعم الله من تعظيمها، وتعظيمها من شكرها، والرمي بها من الاستخفاف بها، وذلك من الكفران، والكَفور ممقوت مسلوب، ولهذا قالوا: الشكر قيد للنعمة الموجودة، وصيد للنعمة المفقودة. وقالوا: كفران النعم بوار، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم هاربها بكرم الجوار.

فارتباط النعم بشكرها، وزوالها في كفرها، فمن عظَّمَها فقد شكرها، ومن استخف بها فقد حقرها وعرضها للزوال، ولهذا قالوا: لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت.

قال ابن الحاج: كان العارف المرجاني إذا جاءه القمح لم يترك أحدا من فقراء الزاوية ذلك اليوم يعمل عملا حتى يلتقطوا جميع ما سقط من الحب على الباب أو بالطريق.

قال: فينبغي للإنسان إذا وجد خبزا أو غيره مما له حرمة، مما يؤكل، أن يرفعه من موضع المهنة إلى محل طاهر يصونه فيه، لكن لا يُقَبِّلُهُ ولا يرفعه فوق رأسه كما تفعله العامة؛ فإنه بدعة.

قال: وهذا الباب مجرَّب، فمن عظَّم الله بتعظيم نعمه لطف به وأكرمه، وإن وقع بالناس شدة جعل له فرجا ومخرجا " انتهى.

وقد جاءت النصوص تأمر برفع الطعام الساقط على الأرض:

فعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ) رواه مسلم (٢٠٣٣)

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، قَالَ وَقَالَ: إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ) رواه مسلم (٢٠٣٤)

يقول النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (١٣/٢٠٦) :

" معناه والله أعلم: أن الطعام الذى يحضره الإنسان فيه بركة، ولا يُدرى أن تلك البركة فيما أكله، أو فيما بقي على أصابعه، أو في ما بقي في أسفل القصعة، أو فى اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة، وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والإمتاع به، والمراد هنا والله أعلم: ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من أذى، ويُقَوِّي على طاعة الله تعالى وغير ذلك " انتهى.

وقد نص الفقهاء في كتبهم على هذا الأدب العظيم، حتى قال ابن حزم في "المحلى" (٦/١١٧) بوجوبه، وانظر: المبسوط (٣٠/٢٦٨) ، حاشية تحفة المحتاج (٧/٤٣٨) ، الإنصاف (٨/٣٢٧) ، الموسوعة الفقهية (٦/١٢١) .

كما ذكروا لهذا الأدب حكما عديدة، وفوائد كثيرة، منها:

١- امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته.

٢- التواضع وعدم التكبر.

٣- احترام نعم الله تعالى وتعظيمها وشكرها وعدم الاستخفاف بها.

٤- تحصيل البركة التي قد تكون في اللقمة الساقطة.

٥- حرمان الشيطان من ذلك الطعام، حتى قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (١٣/٢٠٤) :

" فان وقعت على موضع نجس فلا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر أطعمها حيوانا ولايتركها للشيطان " انتهى.

٦- الاقتصاد وعدم الإسراف.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "شرح رياض الصالحين" (١/٤٥٩) :

" من آداب الأكل أن الإنسان إذا سقطت لقمة على الأرض فإنه لا يدعها؛ لن الشيطان يحضر الإنسان في جميع شئونه ...

والإنسان إذا فعل هذا امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتواضعا لله عز وجل، وحرمانا للشيطان من أكلها، حصل على هذه الفوائد الثلاثة: الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والتواضع، وحرمان الشيطان من أكلها " انتهى.

ويغفل كثير من الناس عن هذا الأدب أثناء تناول الطعام على السفر، فيظنون أنه أدب خاص بما إذا سقط الطعام على الأرض، ولكنه أدب ينبغي الامتثال به حتى على السفر، فإذا سقطت اللقمة من الصحن على السفرة فعليه أن يرفعها.

سئل الشيخ ابن عثيمين في "لقاءات الباب المفتوح" (٣١/سؤال رقم ٢٥) :

" الطعام الذي يسقط على السفرة هل يدخل في حديث إماطة الأذى؟

فأجاب:

نعم. الطعام الذي يسقط على السفرة داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سقطت لقمة أحدكم، فليأخذها وليمط ما بها من أذى، ولا يدعها للشيطان) " انتهى.

ثانيا:

ما يتناقله بعض الناس من مبالغات في هذا الموضوع هو من الأخبار الكاذبة، فقد روى بعض الوضاعين فضائل لمن يرفع اللقمة الساقطة على الأرض، ونسبوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بريء منه.

يقول الإمام السخاوي رحمه الله في "المقاصد الحسنة" (٦٢٧) :

" حديث (من أكل ما يسقط من الخِوان والقَصعةِ أمِن من الفقر والبرص والجذام، وصُرِفَ عن ولده الحُمقُ) أبو الشيخ في الثواب عن جابر به مرفوعا.

وعن الحجَّاجِ بن علاط مرفوعا أيضا بلفظ:

(أُعطِيَ سعةً من الرزق، ووُقِيَ الحمقَ في ولده، وَوَلَدِ ولده)

والديلمي من طريق الرشيد عن آبائه عن ابن عباس رفعه:

(من أكل ما يسقط من المائدة خرج ولده صباح الوجوه، ونفى عنه الفقر)

وأخرجه الخطيب في ترجمة عبد الصمد الهاشمي ثم ضعفه.

وأورده الغزالي في الإحياء بلفظ: (عاش في سعة، وعوفي في ولده)

وفي الباب عن أنس أورده الخطيب في ترجمة يونس من المؤتلف، وفيه قصة لهدبة بن خالد مع المأمون، وعن أبي هريرة.

وكلها مناكير " انتهى.

ومن الأحاديث المكذوبة في هذا الموضوع:

(أكرموا الخبز، فإنه من بركات السماء والأرض، من أكل ما يسقط من السفرة غُفر له)

وانظر "الموضوعات" (٢/٢٨٩- ٢٩٢) ، "تنزيه الشريعة" (٣٢٢) ، "كشف الخفاء" (٢/٢٣٠)

فالواجب تحذير الناس من هذه الأحاديث، وبيان بطلانها وكذبها، ونفيُ الكذب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال والقربات.

ثالثا:

مما ينبغي التنبيه عليه ما يفعله بعض الناس حين يرفع الطعام الساقط على الأرض فتجده يقبله ويضعه على جبهته، فما حكم ذلك؟

جاء في "الموسوعة الفقهية" (١٣/١٣٣-١٣٤) :

" صرّح الشّافعيّة بجواز تقبيل الخبز، وقالوا: إنّه بدعة مباحة أو حسنة، لأنّه لا دليل على التّحريم ولا الكراهة، لأنّ المكروه ما ورد عنه نهي، أو كان فيه خلاف قويّ، ولم يرد في ذلك نهي، فإن قصد بذلك إكرامه لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن، ودوسه مكروه كراهة شديدة، بل مجرّد إلقائه في الأرض من غير دوس مكروه.

وقال صاحب الدّرّ من الحنفيّة مؤيّداً قول الشّافعيّة في جواز تقبيل الخبز: وقواعدنا لا تأباه.

أمّا الحنابلة فقالوا: لا يشرع تقبيل الخبز ولا الجمادات إلا ما استثناه الشّرع " انتهى.

قال ابن مفلح: (وهو ظاهر كلام الشيخ تقي الدين؛ فإنه ذكر أنه لا يشرع تقبيل الجمادات، إلا ما استثناه الشرع) الآداب الشرعية (٣/٢٣١) .

وإلى المنع ذهب المالكية أيضا. قالوا: (وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْمُصْحَفِ وَكَذَا الْخُبْزُ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ امْتِهَانَهُ ـ أي الخبز ـ مَكْرُوهٌ [الخرشي على خليل (٢/٣٢٦) الفواكه الدواني (١/٣٥٦) ]

وقد سبق نص ابن الحاج على أن تقبيل الخبز بدعة.

والأظهر ـ والله أعلم ـ ما ذهب إليه المالكية والحنابلة من المنع، لقول عمر رضي الله عنه، لمّا قبل الحجر: (لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ) رواه البخاري (١٦١٠) ومسلم (١٢٧٠) .

قال الحافظ ابن حجر: " قال شيخنا [يعني: العراقي] في شرح الترمذي: فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>