على المسلم أن يراعي الأدب والحياء في مجالسه مع الناس
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هو حكم الضراط المقصود وإخراج الريح أمام الناس؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
لاشك أن الحياء مما يستحي منه الناس في العادة أمر مطلوب، وأن مراعاة ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه هو من محاسن الأخلاق، وما كان مكروها في عرف الناس، فهو مذموم، وما جرت عادة الناس على تقبيحه فهو قبيح - ما لم تأت الشريعة بما يخالفه.
وروى البخاري (٣٤٨٤) عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ) .
قال الحافظ:
" قَوْله: (فَاصْنَعْ مَا شِئْت) هُوَ أَمْر بِمَعْنَى الْخَبَر , أَوْ هُوَ لِلتَّهْدِيدِ، أَيْ اِصْنَعْ مَا شِئْت فَإِنَّ اللَّه يَجْزِيك.
أَوْ مَعْنَاهُ: اُنْظُرْ إِلَى مَا تُرِيد أَنْ تَفْعَلهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَحَيَا مِنْهُ فَافْعَلْهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَحَيَا مِنْهُ فَدَعْهُ ... " انتهى.
وجاء أعرابي إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين علمني الدين. فقال:
" أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وعليك بالعلانية، وإياك والسر وكل ما يستحى منه".
"شرح أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (١/ ٣٣٣) – "شعب الإيمان" (٣٩٧٦) .
وروى الطبراني في "المعجم الكبير" (٣١٢) عن عكرمة بن خالد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حضره الموت: "يا بني إنك لن تلقى أحدا هو أنصح لك مني: إذا أردت أن تصلي فأحسن وضوءك ثم صل صلاة لا ترى أنك تصلي بعدها، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس فإنه الغنى، وإياك وما يعتذر منه من العمل والقول واعمل ما بدا لك".
وقال بعض الحكماء: " إياك وما يعتذر منه، وما يستحيا من ذكره؛ فإنما يعتذر من الذنب، ويستحيا من القبيح ".
"مكارم الأخلاق" للخرائطي (١/ ٤٨٤)
ولا شك أن تعمد إخراج الريح أمام الناس لغير عذر مناف للحياء، مناقض للمروءة، وهو من مساوئ الأخلاق، لا يعهد مثله إلا عن السفهاء، وقد ورد عن بعض السلف أن هذا الفعل كان من جملة المنكرات التي يفعلها قوم لوط عليه السلام.
قال الله عز وجل: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) العنكبوت/٢٨،٢٩.
قال الشوكاني في "فتح القدير" (٤ / ٢٨٥) :
"واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه: فقيل: كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب، وقيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل: ... ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات. قال الزجاج: وفي هذه إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي" انتهى.
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ بَكْرٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) مَا ذَاكَ الْمُنْكَرُ؟ قَالَ: "كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي الْمَجْلِسِ، يَضْرِطُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالنَّادِي: الْمَجْلِسُ".
"تفسير ابن أبي حاتم" (١١/ ٤٢٥) .
وروى مثله عن عائشة وابن عباس والقاسم بن أبي بزة وغيرهم.
انظر: "تفسير ابن كثير" (٦/٢٧٦) – "تفسير الطبري" (٢٠/٢٩) - "الجامع لأحكام القرآن" (١٣ / ٣٤٢) .
ومما يدل على أن خروج الريح مما يستحيا منه ما رواه أبو داود (١١١٤) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ) صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
قال في "عون المعبود" (٣/٣٢٦) :
" (فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ) : قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ بِأَنْفِهِ لِيُوهِم الْقَوْم أَنَّ بِهِ رُعَافًا (نزيفاً) . وَفِي هَذَا الْبَاب مِنْ الْأَخْذ بِالْأَدَبِ فِي سَتْر الْعَوْرَة وَإِخْفَاء الْقَبِيح وَالتَّوْرِيَة بِمَا هُوَ أَحْسَن , وَلَيْسَ يَدْخُل فِي بَاب الرِّيَاء وَالْكَذِب , وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ التَّجَمُّل وَاسْتِعْمَال الْحَيَاء وَطَلَب السَّلَامَة مِنْ النَّاسِ" انتهى.
وعلى هذا جرت عادة الناس:
قال المدائني:
"جلس أشعب يوماً إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، فانفلتت من مروان ريح لها صوت، فانصرف أشعب يوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح. فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له: الدية، قال: دية ماذا؟ دية الضرطة التي تحملتها عنك، وإلا شهرتك، فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحه عليه" انتهى.
"نهاية الأرب في فنون الأدب" (ص٣٩٣) .
وإنما يعرف عدم الحياء من مثل ذلك في أمم أخرى غير أمة الإسلام.
قال الراغب في "محاضرات الأدباء" (١/ ٤٤٥) :
"زعمت الهند أن حبس الضراط داء دوي، وإن إرساله منج، وأنه العلاج الأكبر. وكانوا في يوم اجتماعاتهم ومحافلهم لا يحبسون ضرطة، ولا يسرون فسوة، ولا يرون ذلك عيباً ولا ضحكة" انتهى.
وروى البخاري (٤٩٤٢) ومسلم (٢٨٥٥) عن عبد الله بن زَمْعَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنْ الضَّرْطَةِ وَقَالَ: (لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ)
قال النووي رحمه الله:
" َفِيهِ: النَّهْي عَنْ الضَّحِك مِنْ الضَّرْطَة يَسْمَعهَا مِنْ غَيْره , بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَغَافَل عَنْهَا وَيَسْتَمِرّ عَلَى حَدِيثه وَاشْتِغَاله بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ غَيْر اِلْتِفَات وَلَا غَيْره , وَيُظْهِر أَنَّهُ لَمْ يَسْمَع. وَفِيهِ حُسْن الْأَدَب وَالْمُعَاشَرَة " انتهى.
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:
حدث في هذا الزمان أناس وللأسف إذا اجتمعوا في بعض مجالسهم يتضارطون فيضحكون على ذلك معجبين بهذا الفعل، وإذا قيل لهم: اتركوا هذه الأفعال الذميمة، قالوا: إنها أولى من الجشاء أو مثله، مع عدم الدليل المانع لذلك، فبماذا يجابون؟ أثابكم الله.
فأجابوا:
"لا يجوز التضارط تصنعا، ولا الضحك من ذلك؛ لمخالفة ذلك للمروءة ومكارم الأخلاق، وليس ذلك مثل الجشاء، فإن الجشاء يخرج عادة دون قصد إليه ولا يضحك منه، أما إذا خرج الضراط من مخرجه الطبيعي دون تصنع - فلا حرج فيه، ولا يجوز الضحك منه؛ لما ثبت عن عبد الله بن زمعة أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس) رواه البخاري " انتهى.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (٢٦/١١١) .
أما إخراج الريح – ولو بصوت – لعذر، كمن به انفلات ريح، أو المريض بالقولون، ومن لم يتمكن من حبسها – فهذا لا شيء عليه، ولا يجوز أن يتضاحك الناس من فعله؛ للحديث المتقدم.
إنما الشأن فيمن يفعل ذلك عن عمد؛ ليتضاحك هو وأصحابه، ولا يبالي بالناس، ولا يستحي منهم، فهذا هو المذموم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤا وجواب