هل تترك السنة البعدية للمغرب من أجل الدرس؟
[السُّؤَالُ]
ـ[قد شاع بين طلبة العلم أن المدرس حين يدرس بعد المغرب يترك المدرس والطلبة صلاة سنة المغرب، محتجين بأن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، فهل هذا المسلك صحيح أم خطأ؟ أفيدونا بارك الله فيكم، ونفع بكم.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المسلك الصحيح لطالب العلم هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم العلماء من بعدهم إلى يومنا هذا: هديهم الدائم، وصفتهم التي لا يتحولون عنها: الحرص على النوافل، والتمسك بالفضائل، والالتزام بسنة خير المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، بل هم أولى من قام بذلك، وأوجب من أمر بذلك، لما هم فيه من انشغال بتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم فضائل الشريعة، فالجدير بطالب العلم أن يعمل بما علم، وأن يكون مقدم الناس إلى الطاعات والعبادات.
ولو رحنا نسوق شيئا من حرص العلماء على العبادات، وعلو همتهم في الالتزام بها لطال بنا المقام كثيرا.
وإذا كان الإمام أحمد رحمه الله قد أنكر على أحد طلبة العلم الذين باتوا عنده ولم يصل قيام الليل، فقال له: ما سمعت بصاحب حديث لا يقوم بالليل. " الآداب الشرعية " (٢/١٦٩) فكيف إذن نسمع اليوم بطالب حديث لا يحافظ على الرواتب.
ولو جرى طالب العلم وراء فهمه الخاطئ لقول العلماء إن طلب العلم خير من نوافل العبادات، لما حافظ على عبادة، بل لَتَرَك الصيام المؤكد، وجف لسانه من ذكر الله، ولما سافر لعمرة ولا تعبد بمعروف للناس: كل ذلك بدعوى انشغاله بالحفظ والدرس والطلب.
فليحذر من كان هذا حاله من خطوات الشيطان، فهو – أعاذنا الله منه – حريص على إفساد قلب طالب العلم، وإشغاله بالمسائل، من غير عمل بها، ولا دعوة إليها.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله:
" ثم إني موصيك - يا طالب العلم - بإخلاص النية بطلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يُعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما " انتهى باختصار.
" اقتضاء العلم العمل " (ص/١٤)
بل كان بعض السلف لا يحب لطالب العلم أن يشتغل في طلبه إلا بالعلم الذي يحتاجه ليعمل به في يومه وليلته، وأما فضول العلم مما لا عمل فيه فكانوا ينهون عنه.
عن ابن وهب قال: قيل لمالك: ما تقول في طلب العلم؟
قال: حسن جميل، لكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي، فالزمه.
" سير أعلام النبلاء " (٨/٩٧)
وقد كان علماؤنا يدركون أن طلب العلم خير من نوافل العبادات، ولكنهم يقررون أيضا أنه لا تعارض بينهما، وأن طالب العلم إن لم يكن له نصيب وافر من نوافل العبادات، وخاصة السنن الرواتب، فذلك دليل على عدم إخلاصه، وعلى سوء فهمه، وتلبيس الشيطان عليه.
يقول الإمام الذهبي رحمه الله:
" هذه مسألة مختلف فيها: هل طلب العلم أفضل، أو صلاة النافلة والتلاوة والذكر؟
فأما من كان مخلصا لله في طلب العلم، وذهنه جيد، فالعلم أولى، ولكن مع حظ من صلاة وتعبد، فإن رأيته مجدا في طلب العلم، لا حظ له في القربات، فهذا كسلان مهين، وليس هو بصادق في حسن نيته.
وأما من كان طلبه الحديث والفقه غية ومحبة نفسانية، فالعبادة في حقه أفضل، بل ما بينهما أفعل تفضيل، وهذا تقسيم في الجملة، فقلَّ - والله - من رأيته مخلصا في طلب العلم.
دعنا من هذ كله فليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف من حيز طلب العلم، بل اصطلاح وطلب أسانيد عالية، وأخذ عن شيخ لا يعي، وتسميع لطفل يلعب ولا يفهم، أو لرضيع يبكي، أو لفقيه يتحدث مع حدث، أو آخر ينسخ.
وفاضلهم مشغول عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس، والقار إن كان له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء، سواء تصحف عليه الاسم، أو اختبط المتن، أو كان من الموضوعات.
فالعلم عن هؤلاء بمعزل، والعمل لا أكاد أراه، بل أرى أمورا سيئة. نسأل الله العفو " انتهى.
" سير أعلام النبلاء " (٧/١٦٧)
ونحن نخشى والله أن يكون حال كثير من طلبة العلم في هذا الزمان، كحال أولئك الذين نعى عليهم الإمام الذهبي رحمه الله انشغالهم بصورة طلب العلم عن العمل بالمضمون.
ثم ننقل لك ههنا نصيحة مطولة لابن الحاج المالكي، يوصي فيها طالب العلم بالمحافظة على أوراد من العبادات، وينهاه عن تركها والانشغال بالعلم عنها، فهي حظه ونصيبه من علمه كله.
يقول رحمه الله:
" ينبغي له – أي لطالب العلم - أن لا يخلي نفسه من العبادات , وأن يكون له ورد من كل شيء منها، إذ إنها سبب الإعانة على ما أخذ بسبيله، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(واستعينوا بالغدوة والروحة , وشيء من الدلجة) – رواه البخاري (٣٩) ، وانظر شرحه في جواب رقم: (٧٠٣١٤) - وما يستعان به لا يترك.
وقد كان بنو إسرائيل إذا أراد أحدهم أن يتعلم العلم انقطع للعبادة أربعين سنة حتى يصفو بها قلبه , وينشرح صدره , فحينئذ يأخذ في تعلم العلم , وذلك لطول أعمارهم , وأما هذه الأمة فقد قال مالك رحمه الله: أدركت الناس , وهم يتعلمون العلم إلى أن يصل أحدهم أربعين سنة فينقطع للعبادة , ويطوي الفراش انتهى.
ومعنى طي الفراش مثل ما كان عليه الصلاة والسلام يفعل في العشر الأواخر من شهر رمضان , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطوي فراشه , ويشد مئزره , ويوقظ أهله , ويقوم الليل كله.
وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج في أول طلبه العلم أن يمزجه بالتعبد , إذ إنه ليس ثم عمر طويل في الغالب في هذا الزمان حتى يترك له برهة منه، فيخشى عليه أن يموت وهو في السبب قبل وصوله للمقصود.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن يأجركم الله عليه حتى تعملوا.
ولأن العلم كالشجرة , والتعبد كالثمرة , فإذا كانت الشجرة لا ثمر لها فليس لها فائدة كلية , وإن كانت حسنة المنظر ناعمة , وقد ينتفع بها للظل وغيره , ولكن الذي عليه المعول قد عدم منها.
وليحذر أن يتكلف من العمل ما عليه فيه مشقة , أو يخل باشتغاله بالعلم , إذ أن اشتغاله بالعلم أفضل كما تقدم , وهذا باب كثيرا ما يدخل منه الشيطان على المشتغلين بالعلم؛ إذا عجز عن تركهم له، فيأمرهم بكثرة الأوراد حتى ينقص اشتغالهم ; لأن العلم هو العدة التي يُتقَّى بها , ويُحذر منه بها، فإذا عجز عن الترك رجع إلى باب النقص , وهو باب قد يغمض على كثير من طلبة العلم ; لأنه باب خير , وعادة الشيطان لا يأمر بخير، فيلتبس الأمر على الطالب فيخل بحاله ...
وإذا كان ذلك كذلك فينبغي له أن يشد يده على مداومته على فعل السنن والرواتب وما كان منها تبعا للفرض قبله أو بعده.
وهذا كله بعد تحصيل الفرائض , وكذلك قضاء الفوائت إن كانت عليه ; لأنه لا يفعل السنن وعليه شيء من ذلك.
وكذلك لا يخلي نفسه من ركوع الضحى، لقول عائشة رضي الله عنها: لو نشر لي أبواي ما تركتها , ومعناه لو أحييا لي وقاما من قبريهما ما اشتغلت بهما عنها.
وكذلك يحافظ على قيام الليل , ولا يخلي نفسه منه , وهو خمس تسليمات غير الوتر , ويقرأ فيها بما خف من القرآن يكون له في تلك الركعات حزب معلوم، من جزئين إلى ثلاثة ; لأن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل كما جاء في الحديث، وفي قيام الليل من الفوائد جملة , فلا ينبغي لطالب العلم أن يفوته منها شيء
ولعلك تقول: إن طالب العلم إن فعل ما ذكرتموه تعطلت عليه وظائفه من الدرس والمطالعة والبحث؟
فالجواب: أن نفحة من هذه النفحات تعود على طالب العلم بالبركات , والأنوار , والتحف ما قد يعجز الواصف عن وصفه , وببركة ذلك يحصل له أضعاف ذلك فيما بعد , مع أن هذا أمر عزيز قل أن يقع إلا للمعتني به , والعلم والعمل إنما هما وسيلتان لمثل هذه النفحات.
وينبغي له أن يحافظ على ورد الصوم , ولا ينبغي له أن يتعلل بأنه مشغو عنه بطلب العلم , إذ صيام ثلاثة أيام في الشهر ليس فيها كبير مشقة في الغالب، سيما على ما كان يصومها مالك رحمه الله , فإنه كان يفطر تسعة أيام , ويصوم عاشرها , وهذا كما تقدم في صلاة الليل فإن وجد النشاط والقوة على أكثر من ذلك بادر إليه مع عدم وقوع الخلل فيما هو بسبيله.
فإن ادعى أنه يعجز عن صوم ثلاثة أيام في الشهر مع طلب العلم فينبغي لهذا أن يترك طلب العلم في تلك الثلاثة , ويصومها , لئلا تفوته هذه الفضيلة العظمى.
ثم كذلك يكون حاله في جميع الأعمال لا يخلي نفسه من شيء منها كما تقدم، ويكون الغالب عليه اشتغاله بالدرس , والمطالعة , والتفهم , والبحث مع الإخوان الذين يرتجى النفع بهم , ولقاء مشايخ العلم الذين جعلهم الله سببا للفتح والخير , ويواظب على ذلك " انتهى باختصار.
" المدخل " (٢/١٣٢-١٣٩)
وهذا كلام غاية في النفاسة، ما أشد حاجتنا للعمل به.
وبناء عليه: فالنصيحة لهؤلاء أن يبدؤوا أولا بصلاة سنة المغرب، قبل اشتغالهم بالدرس، ثم ينتقل الجميع إلى الدرس، فيجمعوا بين الخيرين، ولا يفوتهم، إن شاء الله، شيء مما هم بسبيله من طلب العلم، ويكون أرفق بمن بعد منزله، أو صلى في مسجد آخر، أن يدرك درس العلم من أوله.
والله المستعان.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب