للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عند كثرة الأعراس هل يلزمه إجابة كل دعوة؟

[السُّؤَالُ]

ـ[كثرت الأعراس والاحتفالات فهل يجب علي إجابة الدعوة، علماً أن الرجال فيهم المسبل والحليق، وأحيانا بعض المدخنين؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

من حق المسلم على المسلم إجابة دعوته؛ لما روى البخاري (١١٦٤) ومسلم (٤٠٢٢) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ) .

وظاهر السنة وجوب إجابة دعوة المسلم إلى وليمته، وإلى ذلك ذهب جماهير أهل العلم، وبهذا تعلم أنه إذا وجهت لك دعوة خاصة وجب عليك الحضور، ولم يجز لك التخلف إلا لعذر شرعي يبيح لك ذلك، كأن تكون مريضا أو محتاجا لسفر أو ملازمة أهل، أو أن يكون في محل الدعوة منكر لا تقدر على إزالته، أو كان الداعي المجاهر بالمعصية كحلق اللحية والتدخين يتأثر بعدم حضورك ويدعوه ذلك للتوبة، وأما إن كان غيابك وهجرك لا يؤثر فيه، فيلزمك الحضور، أداء للواجب الشرعي.

وقد سبق تفصيل القول في شروط إجابة الدعوة، فراجع جواب السؤال رقم (٢٢٠٠٦) ، وذكرنا في جواب السؤال رقم (٤٥٧٨٩) أنه لا يجوز حضور حفلات الأعراس المشتملة على منكرات.

ثانيا:

ما ذكره السائل من أن هذه الأعراس يوجد فيها المسبل والحليق، وأحيانا بعض المدخنين،

لا يظهر لنا أنه مانع من إجابة الدعوة؛ فإن هذه المعاصي ليس لها تعلق بمكان الإجابة، أو بنفس الدعوة.

وهناك فرق بين أن تكون الدعوة في المكان المعد للمعصية، أو المكان الذي يوجد فيه هذا الفعل المحرم، كالمقهى، ومكان القمار، والمكان الذي تحلق فيه اللحى، ونحو ذلك، وبين أن تكون الدعوة في مكان يوجد فيه بعض العصاة أو الفساق.

وليُعلم أن هذه المعاصي عم بها البلاء في كل مكان، ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال بمشروعية الابتعاد عن الحليق أو المسبل في وسائل المواصلات، والمحلات، وأماكن الدارسة....

قال المرداوي رحمه الله في الإنصاف (٨/٣١٨-٣١٩) :

" وَمَنَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ مِنْ إجَابَةِ ظَالِمٍ وَفَاسِقٍ وَمُبْتَدِعٍ , وَمُفَاخِرٍ بِهَا , أَوْ فِيهَا , وَمُبْتَدِعٍ يَتَكَلَّمُ بِبِدْعَتِهِ إلَّا لِرَادٍّ عَلَيْهِ. وَكَذَا إنْ كَانَ فِيهَا مُضْحِكٌ بِفُحْشٍ أَوْ كَذِبٍ كَثِيرٍ فِيهِنَّ , وَإِلَّا أُبِيحَ إذَا كَانَ قَلِيلًا.

وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَخُصَّ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ , وَأَنْ لَا يَخَافَ الْمَدْعُوُّ الدَّاعِيَ , وَلَا يَرْجُوهُ , وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَحَلِّ مَنْ يَكْرَهُهُ الْمَدْعُوُّ , أَوْ يَكْرَهَ هُوَ الْمَدْعُوَّ.

قَالَ فِي التَّرْغِيبِ , وَالْبُلْغَةِ: إنْ عَلِمَ حُضُورَ الْأَرَاذِلِ , وَمَنْ مُجَالَسَتُهُمْ تُزْرِي بِمِثْلِهِ: لَمْ تَجِبْ إجَابَتُهُ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ [ابن تيمية] رحمه الله , عَنْ هَذَا الْقَوْلِ: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: وَقَدْ أَطْلَقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله الْوُجُوبَ. وَاشْتَرَطَ الْحِلَّ , وَعَدَمَ الْمُنْكَرِ. فَأَمَّا هَذَا الشَّرْطُ: فَلَا أَصْلَ لَهُ كَمَا أَنَّ مُخَالَطَةَ هَؤُلَاءِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ لَا تُسْقِطُ الْجَمَاعَةَ. وَفِي الْجِنَازَةِ: لَا تُسْقِطُ حَقَّ الْحُضُورِ. فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَهَذِهِ شُبْهَةُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. هُوَ نَوْعٌ مِنْ التَّكَبُّرِ , فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.

نَعَمْ , إنْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامٍ مُحَرَّمٍ: فَقَدْ اشْتَمَلَتْ الدَّعْوَةُ عَلَى مُحَرَّمٍ. وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا: فَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَكْرُوهٍ. وَأَمَّا أنْ كَانُوا فُسَّاقًا , لَكِنْ لَا يَأْتُونَ بِمُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ , لِهَيْبَتِهِ فِي الْمَجْلِسِ: فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَحْضُرَ , إذَا لَمْ يَكُونُوا مَنْ يُهْجَرُونَ , مِثْلَ الْمُسْتَتِرِينَ. أَمَّا إنْ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ مَنْ يُهْجَرُ: فَفِيهِ نَظَرٌ. وَالْأَشْبَهُ: جَوَازُ الْإِجَابَةِ , لَا وُجُوبُهَا. انْتَهَى.

وانظر: الفروع، لابن مفلح (٥/٢٩٧) .

وحتى التدخين الذي يصل ضرره إلى غير المدخن، بالإمكان منعه وقت العرس، أو منعه حيث يجتمع الناس، ويمكن للمدعو أن ينتحي جانبا عن المدخن. فإن تأذى بذلك، ولم يستطع أن يبتعد عنه، وهو أمر بعيد نوعا ما، أمكنه الانصراف، مع إعلام صاحب العرس بعذره.

ثالثا:

ما ذكره السائل من كثرة الأعراس، فلا يظهر لنا أنه عذر يبيح التخلف؛ فمن المعلوم أن هذه الكثرة ليست مما يبلغ ـ عادة ـ حدة المشقة الموجبة للعذر، وغايتها أن تكثر ـ نسبيا ـ في موسم معين، كالصيف مثلا، ولا يظهر لنا أن دعوتين وثلاث دعوات، ونحوا من ذلك، في أسبوع مما يشق على الإنسان تلبيته، ما دام ذلك أمرا طارئا، وليس ذلك مما يضر به في طلب معاشه أو معاده.

وإنما يُتصور المشقة في كثرة الدعوات: إن كان المدعو قاضيا، أو حاكما، أو عالما، أو داعية، أو نحو ذلك، مما تتوجه إليه أنظار عامة الناس، ويكون محلا لدعوتهم [وهو ما يعرف بالشخصيات العامة] ، حتى لو لم يكن بينه وبين من يدعوه حرمة، أو صلة نسب، أو جوار، بل ولو لم يكن يعرفه المدعو أصلا؛ فعادة كثير من الناس ـ حينئذ ـ أن يدعو أمثال هؤلاء؛ إما محبة لأن يشاركوه عرسه، خاصة إن كانوا من أهل الخير والصلاح، أو تباهيا بوجودهم عنده، كما هو الواقع كثيرا.

وفي مثل هذه الحال: لا يتحتم على المدعو أن يجيب الدعوة، خاصة إن شغلته عما هو أولى به من العلم أو الحكم أو الدعوة.

قال ابن مفلح ـ رحمه الله ـ في آداب القاضي:

" وَيَعُودُ الْمَرْضَى , وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ مَا لَمْ يَشْغَلْهُ. وَفِي التَّرْغِيبِ: وَيُوَدِّعُ الْغَازِيَ وَالْحَاجَّ , وَهُوَ فِي الدَّعَوَاتِ كَغَيْرِهِ , وَلَا يُجِيبُ قَوْمًا وَيَدَعُ قَوْمًا بِلَا عُذْرٍ , ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ , وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ يُكْرَهُ لَهُ مُسَارَعَتُهُ إلَى غَيْرِ وَلِيمَةِ عُرْسٍ , وَيَجُوزُ: وَفِي التَّرْغِيبِ: يُكْرَهُ , وَقَدَّمَ: لَا يَلْزَمُهُ حُضُورُ وَلِيمَةِ عُرْسٍ , وَذَكَرَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ: إنْ كَثُرَتْ الْوَلَائِمُ صَانَ نَفْسَهُ " انتهى. الفروع (٦/٤٥١) . وانظر: الإنصاف، للمرداوي (١١/٢١٥) .

وقال البهوتي رحمه الله:

" (وَلَهُ حُضُورُ الْوَلَائِمِ) كَغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِحُضُورِهَا (فَإِنْ كَثُرَتْ الْوَلَائِمُ تَرَكَهَا) كُلَّهَا , (وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ) وَسَأَلَهُمْ التَّحْلِيلَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ بِذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ (وَلَا يُجِيبُ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ) ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْرٌ لِقَلْبِ مَنْ لَا يُجِيبُهُ (إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضَهَا بِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ , مِثْل أَنْ يَكُونَ فِي إحْدَاهُمَا مُنْكَرٌ , أَوْ فِي مَكَان بَعِيدٍ أَوْ يَشْتَغِلُ بِهَا زَمَنًا طَوِيلًا , وَالْأُخْرَى بِخِلَافِهَا فَلَهُ الْإِجَابَةُ إلَيْهَا لِظُهُورِ عُذْرِهِ) " انتهى. كشاف القناع (٦/٣١٨) .

وقال الخطيب الشربيني رحمه الله:

" وَلَهُ تَخْصِيصُ إجَابَةِ مَنْ اعْتَادَ تَخْصِيصَهُ، وَيُنْدَبُ إجَابَةُ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ إنْ عَمَّمَ الْمُولِمُ النِّدَاءَ لَهَا وَلَمْ يَقْطَعْهُ كَثْرَةُ الْوَلَائِمِ عَنْ الْحُكْمِ وَإِلَّا فَيَتْرُكُ الْجَمِيعَ " انتهى. مغني المحتاج (٤/٣٩٢) .

بل في بعضها يترجح عليه أن يترك الإجابة، لا سيما إن غلب على ظنه قصد المفاخرة والمباهاة فيها، كما سبق لصاحب الإنصاف نقله عن ابن الجوزي.

قال الحطّاب رحمه الله:

" قَالَ الْبُرْزُلِيُّ فِي مَسَائِلِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَا يُفْعَلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ فِي بَعْضِ الْأَعْرَاسِ أَوْ الْوَلَائِمِ أَوْ الْأَعْيَادِ مِنْ طَعَامٍ رَفِيعٍ أَوْ حَلَاوَةٍ، وَقَصْدِ بَعْضِ النَّاسِ بِهَا الْمُفَاخَرَةَ وَعَرْضِهِ فَقَطْ، لَا أَكْلِهِ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ أَكْلِهِ " انتهى. مواهب الجليل (٤/٦) .

وقال الملا علي القاري، رحمه الله:

" وقد دعي بعض العلماء فلم يجب فقيل له أن السلف كانوا يدعون فيجيبون قال كان ذلك منهم للموافاة والمواساة وهذا منكم للمكافأة والمباهاة " انتهى. مرقاة المفاتيح (١٠/١٦٦) .

والحاصل أن إجابة دعوة المسلم واجبة، ما دامت لم تشتمل على معصية، أو مانع من الحضور، على ما سبق تفصيله، وأن وجود بعض العصاة في الدعوات ليس مانعا من الإجابة، وهذا شأن عامة مجتمعات الناس، وما يحصل من التكرار عادة: ليس مانعا من الإجابة، إلا أن يكون الشخصية له خصوصية تجعله محلا للدعوة من عامة الناس، بما يشق عليه، أو يشغله عما هو أولى به من أمر معاشه ومعاده: فهنا يباح له التخلف عن الإجابة، ولو قدم عذره لصاحب الدعوة: كان أحسن، وأصلح لذات البين.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>