هل يتظاهر بأنه ليس سلفياً ليتمكن من الدعوة إلى الله؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا في حيرة من أمري، فأنا أتبع تعاليم القرآن والسنة وكان يشار إلي على أنني سلفي في الماضي، والمسجد الذي أصلي فيه منذ عشرين عاما صار يسيطر عليه أفراد من حركة إسلامية يتبعون المذهب الحنفي، فهم ما شاء الله شباب كثر ويصلون في المسجد، ويُطلب مني المساعدة في هذا المسجد.. لكن لدراستي في جامعة المدينة، ولنظر الآخرين لي على أن سلفي، أشعر أن الناس لا يشعرون بالارتياح تجاهي بسبب مذهبي، ولذا قمت من شهور قليلة بتهذيب لحيتي، وبدأت أتولى برنامج مسجد الشباب، وصرت الآن في موقع منفذ برنامج الشباب في المسجد وأنا الآن ألقي محاضرات في التوحيد والعقيدة، وأدل الشباب على مواقع المشايخ ومحاضراتهم على مواقع الإنترنت، وأشعر بأن لدي المرونة الكاملة للتعامل مع هؤلاء الشباب. لكن ماذا لو اكتشفت وعرفت لجنة المسجد بتوجهي، وأنني إنما أزكي وأدعو للفكر السلفي ... فلن يكون لدي المرونة ساعتها؟ فهل أنا غشاش أو كاذب بتغيير مظهري بتهذيب لحيتي وإخفائي لمنهجي؟ وهل بتعليم الشباب في المسجد وتوجيههم ونصحهم بقراءة كتب سلفية وتصفح المواقع الإلكترونية مثل موقعك، وهل أرتكب إثما بالتظاهر على أني فرد من الحركة الإسلامية، وأحمل فهمها، بينما أنا فقط أقوم بالدعوة لمنهج أهل السنة والجماعة ... ؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله أن يعيننا وإياك على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا جميعا من الدعاة إلى الله تعالى، على ما يحب سبحانه من البصيرة في الدين، والمتابعة لهدى المرسلين.
وبعد، فلتعلم ـ أيها الأخ الكريم ـ أمرا له أهميته، نقدمه بين يدي الجواب عن مشكلتك؛ وهذا الأمر هو أن عندنا نوعين من التصرفات، أو الأخلاق الاجتماعية، والتي يتخلق بها المرء في تعامله مع الآخرين، وهذان الأمران هما: المداراة والمداهنة.
قال ابن القيم رحمه الله:
" المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم.
والفرق بينهما أن المدارى يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل. والمداهن يتلطف به ليُقِرّه على باطله، ويتركه على هواه.
فالمداراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق.
وقد ضُرِب لذلك مثلٌ مطابق:
وهو حال رجل به قُرحة قد آلمته، فجاءه الطبيب المداوي الرفيق، فتعرف حالها ثم أخذ في تليينها، حتى إذا نضجت أخذ في بَطِّها برفق [أي: شقها] وسهولة حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواء والمرهم ما يمنع فساده، ويقطع مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذُرُّ عليها ـ بعد نبات اللحم ـ ما ينشف رطوبتها، ثم يشد عليها الرباط، ولم يزل يتابع ذلك حتى صلحت.
والمداهن قال لصاحبها: لا بأس عليك منها، وهذه لا شيء، فاسترها عن العيوب بخرقة، ثم الهُ عنها. فلا تزال مِدتها تقوى وتستحكم، حتى عظم فسادها ". انتهى. "الروح" (٢٣٢) .
فإذا كان حالك مع هؤلاء القوم كحال الطبيب، الذي يتلطف بهم، ليعالج ما بهم من أمراض الشبهات والشهوات، والبدع والمعاصي والانحرافات، وترفقت بهم في ذلك: فتلك حال ممدوحة، ولست مكلفا بأن تعالج كل ما بهم من الأمراض دفعة واحدة، بل ابدأ بالأهم فالمهم، وبالمرض القاتل الفتاك أولا: الشرك وأسبابه، ثم ما يليه من البدع والمعاصي والفجور، كل هذه أمراض تحتاج إلى علاج الطبيب الرفيق الحاذق، في لطف ورفق وأناة.
وإياك إياك أن تظن أن ما أنت عليه من الطب خداع للمريض، أو كذب وسوء، وإياك إياك أن تفقد الحكمة، والعلم، وتجانب الصراط في طبك للمرضى، فساعتها ستنتقل إليك العدوى، وتصبح أنت المريض!!
إن الواجب عليك هو تبليغ كتاب الله وسنة رسوله، وأن تحافظ على منهجك السلفي، وتستعين بكل وسيلة لتوصيله لمن حولك من الناس، لكن في مدارة الطبيب وحلمه، وليس في المداهنة الباطلة، بأن تقرهم على بدعة أو شر ومعصية، وإن كان لك أن تسكت عن بعض الشيء، حتى تتمكن من علاجه ما هو أخطر منه، ثم علاجه هو، ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وحذار أن تفتح على نفسك باب التأويلات الباطلة، فتقع في معصية بعد أخرى، أو بدعة وثانية، أو تتنازل عن شيء من أصول اعتقادك، لتأليف القلوب، ومصلحة الدعوة، كما يتوهم المتوهمون.
وأما ما ذكرت من تقصير لحيتك، فنحن نصدقك القول: إننا نخاف عليك من مغبة ذلك، أن يكون بداية لطريق تنازل طويل، يبدأ من اللحية، وينتهي بالعقيدة السلفية، مرروا بما شئت من الهدي الظاهر، والسنن القولية والعملية؛ فحذار حذار، ولست مكلفا بهلكة نفسك لتنقذ غيرك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) المائدة/١٠٥.
وأما إن كان التقصير، هو فقط، فيما زاد على القبضة، فنرجو أن يسعك ذلك، فقد قال به بعض أهل العلم، من علماء السنة، وفعله بعض السلف الصالح، وإن كنا نرى السنة في خلافه، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، هو ترك اللحية كما هي.
على أنه يترجح جانب الجواز في حقك: إذا تحققت المصلحة الشرعية من ذلك التقصير، خاصة إذا كنت في ديار الغربة، أو بلاد ليست السنة فيها ظاهرة، وأهل السنة غير ممكنين فيها، وكانت ترك بعض السنن أعون لك على الاستمرار في الدعوة إلى الله، وتأليف القلوب، وجمع الناس إلى طريق السنة، ودلالتهم على أهلها: فيسعك، إن شاء الله، ترك بعض ما تعجز عن إظهاره من سنن الهدي الظاهر، إلى أن يأذن الله ويمكن للسنة وأهلها.
غير أننا نقول لك: احذر على قلبك، وكن فقيها بأمر نفسك، وأمر دينك، ولا تجعل ما تركته، وأنت معذور، سببا وطريقا تترك به ما تقدر عليه؛ فقد قال أهل العلم: " الميسور لا يسقط بالمعسور"؛ يعني: أن ما عجزت عن القيام به من الواجبات والمستحبات: ليس عذرا لك في ترك ما قدرت على الإتيان به من ذلك.
وأما ما ذكرت من اكتشافهم أمرك: فلا عليك، أنت بلغ ما علمت من دين ربك، بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا عليك بما نالك في ذلك، كما قال الله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) لقمان/١٧.
وساعتها: إن عجزت عن إتمام دعوتك في مكانك هذا، فلعل الله أن يبدلك ما هو خير منه، أو ييسر لك من سبل الدعوة ما هو أنفع من ذلك.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب