للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أهلها كفار وهجرها زوجها وهي حامل فلم ينفق عليها!

[السُّؤَالُ]

ـ[لدى سؤال يتعلق بقضية شائعة، ما هي مسئولية المجتمع عندما يعلم بقيام زوج بهجر زوجته الحامل تماما، فهو لا يقوم بإعالة زوجته ماديّاً على الإطلاق، وليس هناك وكيل للزوجة؛ لأنها تنحدر من أسرة كافرة، فهل يجوز للمجتمع الذي ينتمي إليه كلا من الزوج والزوجة عند علمه بتلك الظروف أن يدير رأسه ويقول ليس بوسعنا القيام بشيء لأننا نعيش ببلد كافر؟ فقد سمعت بمجتمعات تقوم بإبعاد المسلمين الذين يداومون على ارتكاب المعاصي والابتعاد عنهم، أليست هي مسئولية الأمة أيضا أن تحمل الرجال (الحافظين والعائلين) مسئولية تصرفاتهم عندما يذنبون أو يظلمون نساءهم وأطفالهم؟ ما هي التدابير التي يمكن اتخاذها، وما الذي يجب القيام به؟ .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

نأسف أن يوجد في المسلمين من لا يتخلق بأخلاق الإسلام، ونأسف أن يكون هؤلاء في دول الكفر، فتتعدى إساءتهم إلى أن تصل للإسلام نفسه، ورحم الله من مات من تجار المسلمين، والذين أدخلوا بأخلاقهم الإسلامية العالية أمماً في الإسلام، فكانوا أنموذجاً يُفتخر به في التاريخ.

وما أكثر المسلمين اليوم في دول الكفر، ولو أن كل واحد من هؤلاء كان يحمل الإسلام بتعاليمه الصحيحة، وكان أنموذجاً للمسلم التقي النقي: لرأيت تحولاً عظيماً في الأرض، فلو أدخل كل واحد من أولئك المسلمين شخصاً واحداً في الإسلام كل عام: لرأيت أثر ذلك على الأرض بما لم يُسمع به في تاريخ الأديان، ولكن أنَّى ذلك وهم يجهلون تعاليم الإسلام نظراً، ومَن عَلِمَها منهم فإنه لا يقوم به عملاً، إلا من رحم الله منهم.

والزوج المسلم بدلاً من أن يكون متصفاً بالأخلاق الإسلامية العالية، ويكون سبباً في دخول زوجته وأسرتها في الإسلام: أصبح كثير منهم منفِّراً عن الإسلام بأخلاقه وسلوكه، فمنهم من يتزوج بنية الطلاق، حتى إذا شبع منها وانتهت دراسته ألقى زوجته، ومنهم من يتزوج بقصد الحصول على إقامة أو منحة دراسية، فإذا حصَّل ذلك هجرها، وأما عن معاملاتهم لزوجاتهم فحدِّث عن ذلك ولا حرج، وليته كان زوجاً صالحاً، يقوم بما أوجبه الله عليه من الفرائض، ويتخلق بأخلاق الإسلام: إذاً لكان خيراً له دنيا وأخرى.

ثانياً:

وإن مِن أعظم حقوق الزوجة على زوجها النفقة عليها، وبذلك استحق القوامة.

قال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) النساء/ ٣٤.

قال الإمام الطبري – رحمه الله -:

يعني بقوله جل ثناؤه: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) : الرجال، أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم.

(بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ، وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قُوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن.

" تفسير الطبري " (٨ / ٢٩٠) .

وعَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ.

رواه أبو داود (٢١٤٢) وابن ماجه (١٨٥٠) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".

قال ابن رشد القرطبي - رحمه الله -:

واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج: النفقة، والكسوة؛ لقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) الآية؛ ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ؛ ولقوله لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) فأما النفقة: فاتفقوا على وجوبها.

" بداية المجتهد ونهاية المقتصد " (٢ / ٤٤) .

وفي " الموسوعة الفقهية " (١٦ / ٢٧٤) :

تجب النّفقة والسّكنى للحامل المطلّقة طلاقا رجعيّا أو بائنا حتّى تضع حملها، وذلك باتّفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .

انتهى

والزوجة الحامل تتأكد نفقتها على زوجها حتى لو طلقها! فكيف وهي زوجة لم تُطلَّق؟! .

قال تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الطلاق/ ٦.

بل حتى لو أبرأت زوجها من حقوقها ثم تبين حملها: فإن الإنفاق عليها لا يدخل في الإبراء!

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:

في امرأة طلَّقها زوجها ثلاثاً، وأبرأت الزوج من حقوق الزوجة قبل عِلمها بالحمل، فلما بانَ الحمل: طالبت الزوج بفرض الحمل، فهل يجوز لها ذلك أم لا؟ .

فأجاب:

إذا كان الأمر كما ذكر: لم تدخل نفقة الحمل في الإبراء، وكان لها أن تطلب نفقة الحمل.

" مجموع الفتاوى " (٣٢ / ٣٦١) .

وعليه: فإن للزوجة حق النفقة على زوجها، لها ولحملها، وما تنفقه على نفسها أثناء قطع زوجها النفقة عليها: يبقى دينا في ذمته، وعلى من بيده الأمر أن يجبره على دفع المال لزوجته بما أنفقته وبما يأتي، ويجوز لمن تمكَّن من ماله أن يأخذه منه للنفقة ولو من غير إذنه أو من غير اختياره؛ لأن هذا حق زوجته في ماله، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للزوجة أن تأخذ من مال لزوجها دون علمه للإنفاق على نفسها وعلى أولادها.

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) .

رواه البخاري (٥٠٤٩) ومسلم (١٧١٤) .

ثالثاً:

هجر هذا الزوج لزوجته لا يُعرف سببه، والهجر مشروع إذا وُجدت أسبابه من المرأة كفعل معصية أو ترك واجب، أو لنشوزها على زوجها، على أن يكون الهجر بعد وعظها وتذكيرها بحكم فعلها.

قال تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) النساء/ من الآية ٣٤.

ومن العلماء من يرى أن الهجر لا يكون بخروجه من البيت، بل يهجر في المضجع، وقد سبق الدليل على ذلك من حديث معاوية القشيري، وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه بخروجه من البيت، وذلك يختلف تبعاً لما يراه الزوج مؤثراً في زوجته.

وقد نقل الخلاف في هذه المسألة: الحافظ ابن حجر رحمه الله، ثم قال:

والحق أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، فربما كان الهجران في البيوت أشد من الهجران في غيرها، وبالعكس، بل الغالب أن الهجران في غير البيوت آلم للنفوس، وخصوصا النساء لضعف نفوسهن.

" فتح الباري " (٩ / ٣٠١) .

وفي كل الأحوال: لا يقطع الزوج النفقة عنها وهي في بيته تمكنه من نفسها، أما إن نشزت وخرجت من بيته، فتلك التي لا تستحق النفقة، وأما ما في بطنها من حمل فإن له نفقة على أبيه، ولو كانت الزوجة ناشزا؛ لأن نفقة الحامل لحملها لا لها، وهو قول المالكية، وقول عند الشافعية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، كما في " الموسوعة الفقهية " (١٦ / ٢٧٤) .

وها نحن بينَّا للناس جميعاً أن الشرع قد كفل حق الزوجة، وأمر زوجها بمعاشرتها بالمعروف، وأنها إن قصرت في واجب، أو فعلت معصية: فإن زوجها يعظها قبل أن يهجرها، وأنه لو هجرها فلا يحل له ترك النفقة عليها، إلا أن تنشز وتخرج من بيته، وإن كانت حاملاً وهي في بيت الزوجية فتتأكد نفقتها، وإن كانت في غير بيته لنشوزها فلا تنقطع نفقة ما في بطنها.

وعلى من قدر أن يكلم الزوج وينصحه أن لا يقصِّر في ذلك، ويطالب الزوج إما بإمساكها بمعروف، أو تسريحها بإحسان، ولا يحل له أن يجعلها معلَّقة، لا هي متزوجة ولا هي مطلَّقة.

ويجب في ماله نفقة زوجته، ولو أخذ المال منه بالإجبار والإكراه، فتؤخذ النفقة التي بذلتها الزوجة من وقت قطعها عنها، ويلزم بالاستمرار في الإنفاق عليها.

ولا يحل لأحدٍ يستطيع وضع الأمور في نصابها أن يتخلى عن الزوجة، وبما أن أهلها من الكفار: فإنه يتحتم على المسلمين حولها الاهتمام بها أكثر، حفاظاً على دينها، ونصرة للمظلوم.

إن اهتمام المجتمع بأزمة المأزوم، وحاجة المحتاج، وشكوى المضطر، ليس جزءا كماليا، إن قام به فقد أحسن صنعا، وإن لم يقم لم يستحق اللوم؛ بل إنه جزء من حقيقة إسلام المسلم، وصبغة المجتمع السليم في الإسلام. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) رواه البخاري (٦٠١١) ومسلم (٢٥٨٦) .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

" قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة: الَّذِي يَظْهَر أَنَّ التَّرَاحُم وَالتَّوَادُد وَالتَّعَاطُف وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنَى لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْق لَطِيف , فَأَمَّا التَّرَاحُم فَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَرْحَم بَعْضهمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَان لَا بِسَبَبِ شَيْء آخَر , وَأَمَّا التَّوَادُد فَالْمُرَاد بِهِ التَّوَاصُل الْجَالِب الْمَحَبَّة كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي , وَأَمَّا التَّعَاطُف فَالْمُرَاد بِهِ إِعَانَة بَعْضهمْ بَعْضًا كَمَا يَعْطِف الثَّوْب عَلَيْهِ لِيُقَوِّيَهُ اهـ مُلَخَّصًا.

وقَوْله: (كَمَثَلِ الْجَسَد) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيع أَعْضَائِهِ , وَوَجْه التَّشْبِيه فِيهِ التَّوَافُق فِي التَّعَب وَالرَّاحَة.

وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة: شَبَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَان بِالْجَسَدِ وَأَهْله بِالْأَعْضَاءِ , لِأَنَّ الْإِيمَان أَصْل وَفُرُوعه التَّكَالِيف , فَإِذَا أَخَلَّ الْمَرْء بِشَيْءٍ مِنْ التَّكَالِيف شَانَ ذَلِكَ الْإِخْلَالُ الْأَصْلَ , وَكَذَلِكَ الْجَسَد أَصْل كَالشَّجَرَةِ وَأَعْضَاؤُهُ كَالْأَغْصَانِ , فَإِذَا اِشْتَكَى عُضْو مِنْ الْأَعْضَاء اِشْتَكَتْ الْأَعْضَاء كُلّهَا كَالشَّجَرَةِ إِذَا ضُرِبَ غُصْن مِنْ أَغْصَانهَا اِهْتَزَّتْ الْأَغْصَان كُلّهَا بِالتَّحَرُّكِ وَالِاضْطِرَاب. " انتهى من فتح الباري.

إن إعالة الفقير والمسكين وذي الحاجة، هي حصة أساسية في مال المسلم، وهي فريضة واجبة على المجمتع الذي يعيش فيه. قال الله تعالى، في صفات المؤمنين التي مدحهم بها:

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .

وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع) رواه البخاري في الأدب المفرد (١١٢) وصححه الألباني.

فنسأل الله تعالى أن يهديه لما فيه صلاحه وصلاح بيته، وأن يصبر الأخت على ما ابتلاها ربها بها، ولتبشر بالأجور الوافرة إن هي صبرت واحتسبت مصيبتها، ولتدع ربها تعالى أن يفرج عنها، وأن يختار لها الأصلح لدينها ودنياها.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>