الخوف من انقطاع سبب الرزق، والتعلق بالأسباب، واقع ذلك، وعلاجه
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا طالب في جامعة خاصة، وأنا الآن في السنة الثالثة، وبقي سنتان على التخرج، ومصاريف الجامعة عالية التكاليف، والأهل - بارك الله فيهم - هم من يتكفل بها بفضل من الله. ولكن مؤخراً بدأت أشعر بالقلق تجاه المستقبل، مثل وفاة من يعولني، مما سيؤدي إلى عدم القدرة على مواصلة الدراسة، كما أن الناس ينادونني منذ الآن بدكتور فأخاف من الذل بعد العز، والله يعلم أنني لا أحمل في قلبي تكبراً، وأحاول جاهداً تسخير شهادتي المرجوة منذ الآن في نصرة ديننا العزيز، لكن شعور القلق هذا من أنني لن أتخرج لسبب من الأسباب يجعلني أعتقد أن والدي هما المعيلان وليس الله تعالى!! ، أخاف على عقيدتي، أرجو المساعدة بطرق إيمانية عملية ترفع ثقتي بأن الله هو الفعال لما يريد، وأنه يريد لنا الخير.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن خير ما تعالج به نفسك أخي الفاضل أن تفرِّق بين الأسباب، ومسببها، فالله تعالى هو مقدِّر الأسباب، وموجدها، وأما البشر، والوظائف، والعمل: فما هي إلا أسباب.
فالله تعالى هو الرزاق، وهو سبحانه قد قدَّر للرزق أسباباً، ومن اختلت عقيدته: جعل الأسباب بمنزلة مسببها وموجدها، والإسلام ليس فيه اعتماد المسلم على الأسباب مع غض الطرف عن مسببها، وليس فيه قطع الأسباب والتخلي عنها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " ومما ينبغي أن يعلم: ما قاله طائفة من العلماء، قالوا: " الالتفات إلى الأسباب: شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً: نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية: قدح في الشرع، وإنما التوكل، والرجاء: معنى يتألف من موجب التوحيد، والعقل، والشرع ".
وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه، ورجاؤه، والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا؛ لأنه ليس مستقلاًّ، ولا بد له من شركاء، وأضداد، ومع هذا كله: فإن لم يسخِّره مسبِّب الأسباب: لم يسخَّر، وهذا مما يبين أن الله رب كل شيء، ومليكه، وأن السموات، والأرض، وما بينهما، والأفلاك، وما حوته: لها خالق، مدبِّر، غيرها " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (٨ / ١٦٩) .
وقال – رحمه الله -:
" فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله، لا على سببٍ من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له، وهو مأمور بها: فَعَلَها، مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح، ويلبس جُنَّة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أُمر به من الجهاد، ومَن ترك الأسباب المأمور بها: فهو عاجز، مفرط، مذموم " انتهى.
" مجموع الفتاوى " (٨ / ٥٢٨، ٥٢٩) .
ثانياً:
في حالتك – مثلاً -: فإن والديك هما أسباب النفقة عليك، ويجب أن تعلم أن الله تعالى جعلهما كذلك، ويجب أن تعتقد أن الله تعالى قادر على تقدير أكثر من سبب لرزقك والنفقة عليك، وانظر حولك، فهل ترى الطلاب كلهم ينفق عليهم أهلوهم؟! الجواب: قطعاً لا، ولو تأملت في أسباب رزقهم، والنفقة عليهم: لرأيتها كثيرة، ومتعددة، ومتنوعة، فليس الأمر مقتصراً على والديك حتى تخشى أن تنقطع أسباب نفقتك، وليس لك أن تجعلهما بمنزلة الرب تعالى الرزاق، فشتان بين الخالق والمخلوق، وشتان بين مقدِّر الأسباب وموجدها، وبين الأسباب نفسها.
وتأمل قوله تعالى: (أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) الملك/ ٢١: تجد الأمر واضحاً بيِّناً، إن الله تعالى يخبر الكفار هنا أنه تعالى مقدر الرزق بأسبابه، كالمطر، والأنهار، والعيون، وأنه تعالى لو شاء فمنع هذه الأسباب، فأمسك المطر أن ينزل، والأنهار أن تجري، والعيون أن تجف: فمن ذا الذي يستطيع منع ذلك، ومن ذا الذي يستطيع الإتيان بهذه الأسباب للرزق! .
وعلاج أمرك – أيضاً – هو أن تتفكر في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) الطلاق/ ٢، ٣.
فأنت تظن أنه لو مات والداك فقد تنقطع نفقتك، والله تعالى يقول لك إن العبد لو اتقاه فجاء بالمطلوب، وكف عن الممنوع: لرزقه من حيث لا يحتسب! أي: ليسَّر من أسباب الرزق ما ليس في حسبانه، وما لم يخطر له على بال، كما أن العبد لو توكَّل على الله تعالى حق التوكل لكفاه الله تعالى همومه، وفرَّج عنه غمومه، وهذا هو عين علاج حالتك، وما خلطت به بين أسباب الرزق ومسببه، وما أصابه من قلق وهمٍّ.
واقرأ كلام هذا الإمام لتجد البلسم الشافي لقلقك، وهمِّك، وحزنك:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) النساء/ ١٣٠ -:
" وفي الآية تنبيه على أنه ينبغي للعبد أن يعلِّق رجاءه بالله وحده، وأن الله إذا قدَّر له سبباً من أسباب الرزق، والراحة: أن يحمده على ذلك، ويسأله أن يبارك فيه له، فإن انقطع أو تعذر ذلك السبب: فلا يتشوش قلبُه؛ فإن هذا السبب من جملة أسباب لا تُحصى، ولا يتوقف رزق العبد على ذلك السبب المعين، بل يفتح له سبباً غيره أحسن منه، وأنفع، وربما فتح له عدة أسباب، فعليه في أحواله كلها أن يجعل فضل ربه، والطمع في برِّه: نصب عينيه، وقبلة قلبه، ويكثر من الدعاء المقرون بالرجاء ; فإن الله يقول على لسان نبيه: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظن بي شرّاً فله) – رواه أحمد، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب (٣٣٨٦) -، وقال: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) – رواه الترمذي (٢٨٠٥) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " – " انتهى بتصرف.
" تيسير اللطيف المنَّان في خلاصة تفسير الأحكام " (ص ٨٥) طبعة المعارف.
ثم تأمل ـ يا عبد الله ـ حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا) رواه أحمد (٢٠٥) والترمذي (٢٣٤٤) ، وصححه الألباني.
لتعلم أن قضيتك إنما هي في تحقيق التوكل على الله، وصدق الرجاء فيه، والتعلق به، وليست في موت أحد ولا حياته؛ فإن سنن الله تعالى في خلق لا تتبدل لأجل موت أحد ولا لحياته!! .
ثالثاً:
أمرٌ أخير نختم به معك: وهو أنه قد يكون ما بك من قلق، وما أصابك من هم وغم: إنما هو بسبب معاصٍ أنت مرتكبها، وآثام قد فعلتَها، فانظر لنفسك وعالج ما أنت واقع فيه من مخالفة؛ فإن الله تعالى قد يعجل بالعقوبة لمن كانت هذا حاله، ونحن نعلم ما في الجامعات المختلطة من مفاسد وآثام، فاحرص على التخلص، والتوبة منها.
قال الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله -:
" ومن عقوباتها – أي: المعاصي والذنوب -: ما يلقيه الله سبحانه من الرعب، والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً، فإن الطاعة حصنُ الله الأعظم، الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه: أحاطت به المخاوف من كل جانب، فمن أطاع الله: انقلبت المخاوف في حقه أماناً، ومن عصاه: انقلبت مآمنه مخاوف، فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر، إن حركت الريح البابَ قال: جاء الطلب، وإن سمع وقْع قدمٍ: خاف أن يكون نذيراً بالعطب، يحسب كل صيحة عليه، وكل مكروه قاصد إليه، فمن خاف الله: آمنه من كل شيء، ومن لم يخف الله: أخافه من كل شيء " انتهى.
" الجواب الكافي " (ص ٥٠) .
وانظر جوابي السؤاليْن: (٢٠٠٨٨) و (٢٢٧٠٤) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب