للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حول حديث: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)

[السُّؤَالُ]

ـ[قال الإمام الألباني في رسالته " قيام رمضان " في جزء الاعتكاف ما نصه: " ثم وقفت على حديث صحيح صريح يخصص هذه المساجد، وهو: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) وأشار إلى أنه من حديث حذيفة عند الطحاوى والبيهقى والإسماعيلي، ومن ثَمَّ هو في السلسلة الصحيحة، فما حكم هذا الحديث؟ وماذا يستفاد منه في بابه؟ أي: النفي نفي تحريم أم نفي كمال؟ وإن كان فما القرينة؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد للَّه

أولا:

دل الكتاب والسنة والإجماع على استحباب الاعتكاف في المساجد.

قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) البقرة/١٢٥

وقال تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة/١٨٧

ونقل الإجماع غير واحد من أهل العلم على ذلك، انظر: "الإجماع" لابن المنذر (٤٧) ، "المغني" (٣/١٢٢)

والعلماء وإن اختلفوا في صفة المسجد الذي يشرع فيه الاعتكاف، إلا أن كل مسجد تقام فيه الجمعة والجماعة لا يكاد يختلف الفقهاء في جواز الاعتكاف فيه، ولم تنقل المخالفة إلا عن بعض التابعين في ذلك.

وقد سبق تقرير المسألة في موقعنا جواب السؤال رقم (٤٩٠٠٦) ، (٤٨٩٨٥)

ثانيا:

أما الحديث المذكور في السؤال (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فهو من حديث الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، جاء عنه من طريق سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل: (قَالَ حُذَيْفَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ: عَكُوفًا بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِى مُوسَى وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا اعْتِكَافَ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ قَالَ فِى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا وَأَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا)

إلا أن أصحاب سفيان بن عيينة اختلفوا عليه:

فمنهم من رواه عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهم:

محمد بن الفرج عند الإسماعيلي في "معجم شيوخه" (٢/١١٢) . ومحمود بن آدم المروزي عند البيهقي في "السنن" (٤/٣١٦) ، وهشام بن عمار عند الطحاوي في "بيان مشكل الآثار" (٧/٤٠) ، وسعيد بن منصور، كما في "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (٢/١٢٧)

ومنهم من رواه عنه وجعله من قول حذيفة موقوفا عليه، وهم:

عبد الرزاق في "المصنف" (٤/٣٤٨) ، وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن أبي عمر عند الفاكهي في "أخبار مكة" (٢/١٤٩) .

والراجح – والله تعالى أعلم – هي الرواية الموقوفة على حذيفة، يعني أنه قال هذا الكلام من رأيه واجتهاده، ولم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما يلي:

١- ورود هذا النص من قول حذيفة رضي الله عنه من طريق أخرى، فقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (٢/٣٣٧) وعبد الرزاق أيضا (٤/٣٤٧) من طريق سفيان الثوري عن واصل الأحدب عن إبراهيم النخعي قال: جاء حذيفة إلى عبد الله فقال: ألا أعجبك من قومك عكوف بين دارك ودار الأشعري يعني المسجد؟! قال عبد الله: ولعلهم أصابوا وأخطأت؟! فقال حذيفة: أما علمت أنه لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أبالي أعتكف فيه أو في سوقكم هذه.

ورواية إبراهيم النخعي عن عبد الله بن مسعود رواية مقبولة لدى أهل العلم. انظر: "جامع التحصيل" (١٤١) ، "شرح العلل" (١/٢٩٤)

٢- اختلاف الروايات على حذيفة رضي الله عنه، فقد جاء عنه من طرق أخرى أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة. ولم يحصره في المساجد الثلاثة فقط.

يقول ابن حزم رحمه الله "المحلى" (٥/١٩٥) بعد أن ذكر هذا الاختلاف:

" قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى ولم يدخل فيه شك، فصح يقينا أنه عليه السلام لم يقله قط " انتهى.

٣- أن أكابر الصحابة على خلافه، فقد أفتى علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس بالاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفة في ذلك، بل كان هذا العمل مشهوراً بينهم في كل الأمصار دون نكير، إلا ما جاء عن حذيفة رضي الله عنه والله أعلم. قاله الشيخ سليمان العلوان.

فالخلاصة أنه لا يصح رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه من قول حذيفة واجتهاده ورأيه الذي خالف فيه باقي الصحابة رضوان الله عليهم، كما خالف فيه ظاهر القرآن الكريم الذي جاء بإطلاق محل الاعتكاف فقال: (وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة/١٨٧، ولا ينبغي مخالفة ظاهر القرآن وعمل أكثر الصحابة برواية موقوفة فيها بعض الاضطراب، لم يروها أهل الصحاح ولا السنن، ولم يفت بها أحد من الفقهاء المتقدمين، وإن ذهب إليها بعض العلماء المتأخرين، فقد أخطأ اجتهادُهم الصوابَ في هذه المسألة.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (٦/٥٠٤) :

" فكل مساجد الدنيا يُسن فيها الاعتكاف، وليس خاصا بالمساجد الثلاث، كما روي ذلك عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فإن هذا الحديث ضعيف.

ويدل على ضعفه أن ابن مسعود رضي الله عنه وهَّنَه فقال: (لعلهم أصابوا فأخطأت، وذكروا فنسيت) فأوهن هذا حكما ورواية.

أما حكما ففي قوله: (أصابوا فأخطأت) وأما رواية: (فذكروا ونسيت) والإنسان معرَّض للنسيان.

وإن صح هذا الحديث فالمراد به: لا اعتكاف تام، أي أن المساجد الأخرى الاعتكاف فيها دون المساجد الثلاث، كما أن الصلاة في المساجد فيها دون الصلاة في المساجد الثلاثة.

ويدل على أنه عام في كل مسجد قوله تعالى: (وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ثم كيف يكون هذا الحكم في كتاب الله للأمة من مشارق الأرض ومغاربها ثم نقول: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة، فهذا بعيد أن يكون حكم مذكور على سبيل العموم للأمة الإسلامية ثم نقول إن هذه العبادة لا تصح إلا في المساجد الثلاثة " انتهى.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>