الأسباب الواردة في هبة سودة ليلتها لعائشة وبيان الراجح منها
[السُّؤَالُ]
ـ[ذُكر أن النبي صلى الله عليه عرض على " سودة بنت زمعة " الطلاق عندما كبرت في العمر، ولكنها رفضت، ومن ثَمَّ أعطت يومها لعائشة رضي الله عنها. يبدو لي أن هذا الفعل على إطلاقه هكذا لا يمكن أن يكون صدر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنه لا بد من أن يكون هناك خلفية لهذه القصة، وهو الأمر الذي أريد أن تشرحوه لي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
ثبت في الصحيحين أن أم المؤمنين " سودة بنت زمعة " رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة رضي الله، وهذا المقدار لا شك فيه من حيث الثبوت، ولكن ما هو سبب هذا الفعل من أم المؤمنين سودة رضي الله؟ جاء ذلك على وجوه متعددة:
١. قيل: إن ذلك كان بعد تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لها.
٢. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم همَّ بتطليقها.
٣. وقيل: إنها ظنَّت أنه سيطلقها، ولذا تنازلت عن ليلتها لعائشة؛ لتبقى في عصمته صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وتكون زوجة له في الآخرة، فقبل منها ذلك صلى الله عليه وسلم.
٤. وقيل: إنها أرادات بتلك الهبة رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانت تعلم محبته لعائشة رضي الله عنها، وهذان السببان هما أصح ما ورد من الأسباب لذلك الفعل منها رضي الله عنها.
أ. أما ما ورد أنها رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة بعد أن طلقها النبي صلى الله عليه وسلم: فهي رواية ضعيفة.
قال ابن الملقِّن – رحمه الله -:
وَهَذِه رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه: " أَنه عَلَيْهِ السَّلَام طلَّق سودةَ، فلمَّا خرج إِلَى الصَّلَاة أمسكتْهُ بِثَوْبِهِ، فقالتْ: مَا لي فِي الرِّجال حَاجَة، وَلَكِنِّي أُرِيد أَن أُحْشَرَ فِي أَزوَاجك، قَالَ: فراجَعَهَا، وَجعل يَوْمهَا لعَائِشَة، فَكَانَ يِقَسْم لَهَا بيومها، وَيَوْم سَوْدَة ".
وَهَذَا مَعَ إرْسَاله: فِيهِ أَحْمد العطاردي، وَهُوَ مِمَّن اخْتلف فِيهِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ ابْن عدي: رَأَيْتهمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضعفه، وَقَالَ مُطيَّن: كَانَ يكذب.
" البدر المنير " (٨ / ٤٨) .
وكذبه رحمه الله ليس في الحديث، وإلا كان حديثه موضوعاً، وقد بيَّنه الإمام الذهبي رحمه الله فقال إنه كذب في لهجته، لا في روايته.
قال رحمه الله:
قُلْت: يَعنِي فِي لَهْجَتِهِ، لَا أَنَّه يَكْذِبُ في الحَديثِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَد مِنهُ، وَلَا تَفَرَّدَ بِشَيْءٍ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّهُ صَدوقٌ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ: أَنَّه رَوَى أَوْرَاقاً مِنَ " المَغَازِي " بِنُزُولٍ، عَن أَبِيهِ، عَن يُونُسَ بنِ بُكَيْرٍ، وَقَد أَثنَى عَلَيهِ الخَطِيبُ، وَقَوَّاهُ، وَاحتَجَّ بِهِ البَيْهَقِيُّ فِي تَصَانِيْفِهِ.
" سير أعلام النبلاء " (٢٥ / ٥٥) .
وثمة رواية أخرى نحوها قال عنها الحافظ ابن كثير في " التفسير " (٢ / ٤٢٧) : غريب، مرسل.
ب. وأما القول بأن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنهما لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم بطلاق سودة: فلم نره في حديث، بل كان فهماً من بعض المفسرين، والعلماء، ومن ذلك:
قال الماوردي – رحمه الله – في بيان سبب نزول قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) -:
أحدهما: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همَّ بطلاق سودة بنت زمعة، فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها، فنزلت هذه الآية فيها، وهذا قول السدِّي.
" تفسير الماوردى " (١ / ٥٣٣) .
ج. وأما ما ورد أنها رضي الله عنها خشيت من تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لها فقد ثبت في أحاديث صحيحة:
عَنْ عروة بن الزبير قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ، وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، قَالَتْ: نَقُولُ: فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا - أُرَاهُ قَالَ -: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً) .
رواه أبو داود (٢١٣٥) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: " لَا تُطَلِّقْنِي، وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) .
رواه الترمذي (٣٠٤٠) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
د. وأما ما ورد أن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله عنها ساعية لرضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت ـ أيضا ـ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: " غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري (٢٤٥٣) .
هذه الآثار واضحة من كلام عائشة رضي الله عنها أن " سودة " إنما خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم بسبب كبر سنِّها، وليس أنه باشر طلاقها فعلاً، وما ورد أنه فعل ذلك: مرسل ضعيف لا يصح، ولم يرد أنه همَّ بطلاقها لأجل كبر سنِّها.
وأمر آخر: أن النبي صلى الله عليه لم يتزوجها أصلاً من أجل صغر سنِّها، ولا من أجل الشهوة، فقد كانت كبيرةً في السنِّ حين تزوجها، وكل نسائه لمَّا تزوجهن كنَّ ثيبات، وذوات أولاد، إلا عائشة رضي الله عنها، فلم يكن نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب شهوة يبحث عن أبكار وصغيرات ليتزوجهن، ثم إن كبرن طلَّقهن، وكل من علم شيئا من سيرته وحاله: قطع بذلك، ونزهه عن إفك الأفاكين.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: (إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْنَاهُ وَأَهْدَاهُ وَأَتْقَاهُ) .
رواه ابن ماجة في مقدمة سننه (٢٠) ، وقال البوصيري: "هذا إسناد صحيح، ورجاله محتج بهم في الصحيحين". انتهى. "مصباح الزجاجة" (١/٤٧) .
وروي ذلك ـ أيضا ـ عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
قال السندي رحمه الله: " أَيْ الَّذِي هُوَ أَوْفَق بِهِ مِنْ غَيْره، وَأَهْدَى وَأَلْيَق بِكَمَالِ هُدَاهُ، وَأَتْقَاهُ: أَيْ وَأَنْسَب بِكَمَالِ تَقْوَاهُ " انتهى.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب