للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الإلحاح في الدعاء ليس من الاعتراض على القدر

[السُّؤَالُ]

ـ[منذ فترة طويلة تكون لدي حلم، وهو صعب المنال، لكن إيماني بقدرة الله هو ما شجعني على السعي إليه بشتى الطرق.. وحتى هذه اللحظة لم يتحقق حلمي رغم دعائي المتكرر، وفي كل الأوقات، لأكثر من خمس سنين متواصلة لتحقيقه.. وقد حلمت منذ فترة حلما، وقرأت تفسيره في كتاب: أنني ربما أتطلع لأمر ولن أناله ... الآن لم يزل تعلقي بتحقيق حلمي موجودا، ولم ولن أيأس من رحمة الله بي، وأعلم أن التأخير فيه مصلحة لي.. لكنني أتساءل هل أنا ـ بذلك ـ أعترض على الله؟ هل علي أن أستمر بالدعاء لتحقيق هذا الأمر لي؟ أم أنني من المفترض أن أسلم بتفسير الرؤيا وأتوقف عن الدعاء، لأن هذا الأمر لن يتحقق؟ أنا حائرة ولا أعلم إن كان تكراري للدعاء فيه تعدي وعدم إيمان بالقضاء، وهل وجود أمل في قلبي أن رحمة الله واسعة، وأن هذا الأمر سيتحقق، وإن كان متأخرا، فيه سوء أدب مع الله؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

نشكر لك في البداية همتك العالية، وطموحك نحو تحقيق ما تحلمين به، ونذكرك مع ذلك بأمور عدة:

الأمر الأول: ضرورة الأخذ بالأسباب، فقد خلق الله الدنيا بنظام السبب والمسبب، وأوجب على الناس العمل في هذه الدنيا ضمن هذا النظام، فمن ألغى الأسباب فقد تعدى على شرع الله وقدره.

الأمر الثاني: الإلحاح في الدعاء مما يحبه الله ويرضاه، وليس فيه اعتراض على القدر، بل هو إصرار على بلوغ المراد ضمن الأسباب المشروعة، والدعاء أحد هذه الأسباب، فهو من قضاء الله وقدره، وهو علامة العبودية، وأمارة الإيمان.

قال ابن القيم: " ومن أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء " انتهى.

" الجواب الكافي " (ص/٢٥) .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ: يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) رواه البخاري (٦٣٤٠) ومسلم (٢٧٣٥)

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:

" في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء , وهو أنه يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار , حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة. وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر رفعه: (من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة) ، الحديث أخرجه الترمذي بسند لين، وصححه الحاكم فوهم.

قال الداودي: يخشى على من خالف وقال قد دعوت فلم يستجب لي أن يحرم الإجابة، وما قام مقامها من الادخار والتكفير انتهى ... وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يرد، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة، أو يعوض بما هو أولى له عاجلا أو آجلا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض " انتهى.

" فتح الباري " (١١/١٤١) .

الأمر الثالث، وهو الأهم فيما نريد تنبيهك إليه:

إذا كان ما تدعين به من أمور الدنيا الفانية، ومما قد يبتلى به الإنسان في حياته بفقد، أو مرض أو فقر ونحو ذلك، فلا نرى لك الحلم به كثيرا، ولا التعلق القلبي العظيم بتحقيقه، فقد خلق الله الدنيا ناقصة اللذات، لا تصفو لأحد، فلا تظني في قلبك أنها تصفو لك، ولو بكثرة الدعاء، وهذه لفتة دقيقة أشار إليها العلامة ابن الجوزي رحمه الله، كي يستريح من يدعو ولا يستجاب له، وكي لا يقع المسلم في التسخط في آخر المطاف، بل يرضى بالقضاء، ويحتسب أجره عند الله، ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى.

يقول ابن الجوزي رحمه الله:

" من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف، فإنه موضوع على عكس الأغراض، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض، فإن دعا وسأل بلوغ غرض، تعبد الله بالدعاء: فإن أعطي مراده، شكر، وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح في الطلب؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة/٢١٦، ومن أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن، أو ربما قال: حول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب، وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة، ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر؟! هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأخرج منها، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسحاق بالذبح، ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا، وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش فمعلوم، فالدنيا وضعت للبلاء، فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا، كما قيل:

طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذاء والأكدَارِ " انتهى.

" صيد الخاطر " (ص/٣٩٩) .

الأمر الرابع:

لا تعولي كثيرا على الرؤى والأحلام، فهي ظنية الدلالة، لا يعتمد في تأويلها على ما في الكتب، ولا يقبل تأويلها من عابر غير عالم ولا بصير، فكيف تبنين عليها قرارا وتتوقفين بسببها عن سعي ونجاح، بل ننصحك بالتوكل على الله، والإلحاح في الدعاء إذا كان في الأمر خير.

والخلاصة: أن هذا الأمر الذي تحلمين به: إن كان مما يقربك من رضوان ربك وجنته، ويباعدك من سخطه وناره: فلا تتركي الإلحاح في الدعاء به، مع الأخذ بما تطيقينه من الأسباب لبلوغه، وإن كان عرضا من الدنيا، من رزق، أو مال، أو إنسان معين، تريدين الزواج منه: فلا نرى لك أن تتعلقي به كل هذا التعلق، سنين طوالا؛ بل فوضي أمرك إلى الله، وانشغلي بما ينفعك، واسأليه أن يقدر لك الخير في أمرك كله.

وانظري جواب الأسئلة التالية: (٩٣٣٩٩) ، (١١٥٩٤٥) ، (١١٧٦٦٥) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>