للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قول الشيخ العثيمين في مسألة " العذر بالجهل "

[السُّؤَالُ]

ـ[ما قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في " العذر بالجهل " في الشرك الأكبر؟ فقد سمعت وقرأت له قولين مختلفين، فقد ردَّ على سائل في " نور على الدرب " عندما سأله عن مسلمين يعبدون القبور قائلاً: هذا جهل من السائل تسميته لهم بمسلمين، وقولٌ آخر يقول فيه يبقى لهم حكم الإسلام لجهلهم، وعدم وجود من ينبههم. فهل للشيخ قولان أحدهما قديم والآخر جديد تبين له الحق فيه؟ وأي القولين هو الصحيح الذي تدعمه الأدلة الشرعية؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

لم نستطع الوقوف على كلام الشيخ العثيمين رحمه الله الذي أشار السائل إلى وجوده في فتاوى " نور على الدرب "، ووقفنا على كلامه في أكثر كتبه المطبوعة، وفتاواه الصوتية، ولم نجد تعارضاً ولا تناقضاً في كلامه، وليس هناك تراجع عن شيء قاله.

ويمكننا تلخيص كلام الشيخ رحمه الله في مسألة العذر بالجهل في النقاط التالية:

١. الأصل عند الشيخ رحمه الله هو العذر بالجهل، بل يرى أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على أن الجاهل ليس بمعذور، ويرى أنه " لولا العذر بالجهل: لم يكن للرسل فائدة، ولكان الناس يُلزمون بمقتضى الفطرة، ولا حاجة لإرسال الرسل! ".

٢. لا فرق في العذر بالجهل بين مسائل الاعتقاد ومسائل العمل.

٣. لا فرق في العذر بالجهل بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية؛ لأن الظهور والخفاء أمرٌ نسبي يختلف من بيئة لأخرى، ومن شخص لآخر.

٤. الكفر المخرج من الملة قد يكون بالاعتقاد أو القول أو الفعل أو الترك، والشيخ لا يخالف في كون ذلك مخرجاً من الملة، ولكن الخلاف في تنزيل وصف الكفر على الشخص المعيَّن، فقد يكون معذوراً فلا يكون كافراً.

٥. لا يكون الشخص الفاعل للكفر كافراً إذا كان جاهلاً، ولا يعلم حكم الشرع في فعله، أو سأل أحد العلماء فأفتاه بجواز فعله.

ويكون كافراً إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيل عنه الوهم والإشكال.

٦. ليس كل من يدَّعي الجهل يُقبل منه، فقد يكون عنده تفريط في التعلم، وتهاون في السؤال، وقد يكون فيه عناد لا يقبل الحق ولا يسعى لطلبه: فكل هؤلاء غير معذورين عند الشيخ رحمه الله، ويسستثنى من حال المقصِّرين: إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل محرم، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذوراً.

٧. الجاهل من الكفار الأصليين: تطبَّق عليه أحكام الكفر في الدنيا وأمره إلى الله في الآخرة، والصحيح أنه يُمتحن.

والجاهل من المنتسبين للإسلام ممن وقعوا في الكفر المخرج من الملة: تطبَّق عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وأمرهم إلى الله في الآخرة.

٨. ذكر الشيخ رحمه الله نصوصاً من القرآن والسنَّة وكلام أهل العلم على ما رجَّح في هذه المسألة، وبيَّن أن هذا هو مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، خلافاً لمن فهم عنه غير ذلك.

وإلى ذكر تفصيل ما لخصناه من كلام الشيخ رحمه الله، وقد نختصر فيما ننقله، ومن أراد الفائدة مكتملة فليرجع إلى ما نحيله عليه.

١. سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن العذر بالجهل فيما يتعلق بالعقيدة؟

فأجاب:

الاختلاف في مسألة العذر بالجهل كغيره من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، وربما يكون اختلافاً لفظيّاً في بعض الأحيان من أجل تطبيق الحكم على الشخص المعين، أي: إن الجميع يتفقون على أن هذا القول كفر، أو هذا الفعل كفر، أو هذا الترك كفر، ولكن هل يصدق الحكم على هذا الشخص المعين لقيام المقتضي في حقه وانتفاء المانع أو لا ينطبق لفوات بعض المقتضيات، أو وجود بعض الموانع.

وذلك أن الجهل بالمكفر على نوعين:

الأول: أن يكون من شخص يدين بغير الإسلام، أو لا يدين بشيء، ولم يكن يخطر بباله أن ديناً يخالف ما هو عليه: فهذا تجري عليه أحكام الظاهر في الدنيا، وأما في الآخرة: فأمره إلى الله تعالى، والقول الراجح: أنه يمتحن في الآخرة بما يشاء الله عز وجل، والله أعلم بما كانوا عاملين، لكننا نعلم أنه لن يدخل النار إلا بذنب لقوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحداً) .

وإنما قلنا: تُجرى عليه أحكام الظاهر في الدنيا - وهي أحكام الكفر -: لأنه لا يدين بالإسلام، فلا يمكن أن يُعطى حكمه، وإنما قلنا بأن الراجح أنه يمتحن في الآخرة: لأنه جاء في ذلك آثار كثيرة ذكرها ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه: " طريق الهجرتين " عند كلامه على المذهب الثامن في أطفال المشركين تحت الكلام على الطبقة الرابعة عشرة.

النوع الثاني: أن يكون من شخص يدين بالإسلام، ولكنه عاش على هذا المكفِّر، ولم يكن يخطر بباله أنه مخالف للإسلام، ولا نبَّهه أحدٌ على ذلك: فهذا تُجرى عليه أحكام الإسلام ظاهراً، أما في الآخرة: فأمره إلى الله عز وجل، وقد دلَّ على ذلك الكتاب، والسنَّة، وأقوال أهل العلم.

فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وقوله: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) . وقوله: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقوله: (وما أرسلنا رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) وقوله: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) وقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) .

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحجة لا تقوم إلا بعد العلم والبيان.

وأما السنة: ففي صحيح مسلم١/١٣٤ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني: أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) .

وأما كلام أهل العلم: فقال في " المغني " (٨ / ١٣١) : " فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام، والناشئ بغير دار الإسلام، أو بادية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم: لم يحكم بكفره "، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى " (٣ / ٢٢٩) مجموع ابن قاسم: " إني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - من أعظم الناس نهياً عن أن يُنسب معيَّن إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله تعالى قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية "

إلى أن قال: " وكنت أبيِّن أن ما نُقل عن السلف والأئمَّة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا: فهو أيضاً حقٌّ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين ".

إلى أن قال: " والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن الرجل قد يكون حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً ".

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (١ / ٥٦) من " الدرر السنية ": " وأما التكفير: فأنا أكفِّر مَن عرف دين الرسول، ثم بعدما عرفه سبَّه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره ". وفي (ص ٦٦) : " وأما الكذب والبهتان فقولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل؟ ! ".

وإذا كان هذا مقتضى نصوص الكتاب، والسنة، وكلام أهل العلم فهو مقتضى حكمة الله تعالى، ولطفه، ورأفته، فلن يعذب أحداً حتى يعذر إليه، والعقول لا تستقل بمعرفة ما يجب لله تعالى من الحقوق، ولو كانت تستقل بذلك لم تتوقف الحجة على إرسال الرسل.

فالأصل فيمن ينتسب للإسلام: بقاء إسلامه حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي.... .

فالواجب قبل الحكم بالتكفير أن ينظر في أمرين:

الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.

الأمر الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.

ومن أهم الشروط أن يكون عالماً بمخالفته التي أوجبت كفره لقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) ، فاشترط للعقوبة بالنار أن تكون المشاقة للرسول من بعد أن يتبين الهدى له، ولكن هل يشترط أن يكون عالماً بما يترتب على مخالفته من كفر أو غيره أو يكفي أن يكون عالماً بالمخالفة وإن كان جاهلاً بما يترتب عليها؟ .

الجواب: الظاهر الثاني؛ أي إن مجرد علمه بالمخالفة كاف في الحكم بما تقتضيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لعلمه بالمخالفة مع جهله بالكفارة؛ ولأن الزاني المحصن العالم بتحريم الزنى يرجم وإن كان جاهلاً بما يترتب على زناه، وربما لو كان عالماً ما زنى. .. .

والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفراً، كما يكون معذوراً بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقاً، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم.

" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (٢ / جواب السؤال ٢٢٤) .

٢. وسئل الشيخ رحمه الله:

قرأنا لك جواباً عن " العذر بالجهل " فيما يكفر، ولكن نجد في كتاب " كشف الشبهات " للشيخ محمد بن عبد الوهاب عدم العذر بالجهل، وكذلك في كتاب " التوحيد " له، مع أنك ذكرت في جوابك أقوال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك ابن تيمية في " الفتاوى "، وابن قدامة في " المغني "، نرجو التوضيح.

فأجاب:

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قد ذكر في رسائله أنه لا يكفِّر أحداً مع الجهل، وإذا كان قد ذكر في " كشف الشبهات " أنه لا عذر بالجهل: فيحمَل على أن المراد بذلك الجهل الذي كان من صاحبه تفريط في عدم التعلم، مثل أن يعرف أن هناك شيئاً يخالِف ما هو عليه، ولكن يفرِّط، ويتهاون: فحينئذٍ لا يُعذر بالجهل.

" روس وفتاوى الحرم المكي " (عام ١٤١١هـ، شريط ٩، وجه أ) .

٣. وسئل الشيخ رحمه الله هل يعذر الإنسان بالجهل فيما يتعلق بالتوحيد؟

فأجاب:

العذر بالجهل ثابت في كل ما يدين به العبد ربه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) حتى قال عز وجل: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ؛ ولقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ؛ ولقوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) ؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار) ، والنصوص في هذا كثيرة، فمن كان جاهلاً: فإنه لا يؤاخذ بجهله في أي شيء كان من أمور الدين، ولكن يجب أن نعلم أن من الجهلة من يكون عنده نوع من العناد، أي: إنه يُذكر له الحق، ولكنه لا يبحث عنه، ولا يتبعه، بل يكون على ما كان عليه أشياخه، ومن يعظمهم، ويتبعهم، وهذا في الحقيقة ليس بمعذور؛ لأنه قد بلغه من الحجة ما أدنى أحواله أن يكون شبهة يحتاج أن يبحث ليتبين له الحق، وهذا الذي يعظم من يعظم من متبوعيه شأنه شأن من قال الله عنهم: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) ، وفي الآية الثانية: (وإنا على آثارهم مقتدون) ، فالمهم: أن الجهل الذي يُعذر به الإنسان بحيث لا يعلم عن الحق، ولا يذكر له: هو رافع للإثم، والحكم على صاحبه بما يقتضيه عمله، ثم إن كان ينتسب إلى المسلمين، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله: فإنه يعتبر منهم، وإن كان لا ينتسب إلى المسلمين: فإن حكمه حكم أهل الدين الذي ينتسب إليه في الدنيا، وأما في الآخرة: فإن شأنه شأن أهل الفترة، يكون أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وأصح الأقوال فيهم: أنهم يمتحنون بما شاء الله، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم دخل النار، ولكن ليعلم أننا اليوم في عصر لا يكاد مكان في الأرض إلا وقد بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، بواسطة وسائل الإعلام المتنوعة، واختلاط الناس بعضهم ببعض، وغالباً ما يكون الكفر عن عناد.

" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (٢ / جواب السؤال رقم ٢٢٢) .

٤. وسئل الشيخ رحمه الله:

ما حكم من يصف الذين يعذرون بالجهل بأنهم دخلوا مع المرجئة في مذهبهم؟ .

فأجاب:

وأما العذر بالجهل: فهذا مقتضى عموم النصوص، ولا يستطيع أحد أن يأتي بدليل يدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء/ ١٥، وقال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء/ ١٦٥، ولولا العذر بالجهل: لم يكن للرسل فائدة، ولكان الناس يلزمون بمقتضى الفطرة ولا حاجة لإرسال الرسل، فالعذر بالجهل هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، وقد نص على ذلك أئمة أهل العلم: كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لكن قد يكون الإنسان مفرطاً في طلب العلم فيأثم من هذه الناحية أي: أنه قد يتيسر له أن يتعلم؛ لكن لا يهتم، أو يقال له: هذا حرام؛ ولكن لا يهتم، فهنا يكون مقصراً من هذه الناحية، ويأثم بذلك، أما رجل عاش بين أناس يفعلون المعصية ولا يرون إلا أنها مباحة ثم نقول: هذا يأثم، وهو لم تبلغه الرسالة: هذا بعيد، ونحن في الحقيقة - يا إخواني- لسنا نحكم بمقتضى عواطفنا، إنما نحكم بما تقتضيه الشريعة، والرب عز وجل يقول: (إن رحمتي سبقت غضبي) فكيف نؤاخذ إنساناً بجهله وهو لم يطرأ على باله أن هذا حرام؟ بل إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال: " نحن لا نكفر الذين وضعوا صنماً على قبر عبد القادر الجيلاني وعلى قبر البدوي لجهلهم وعدم تنبيههم ".

" لقاءات الباب المفتوح " (٣٣ / السؤال رقم ١٢) .

٥. وقال الشيخ رحمه الله:

ولكن يبقى النظر إذا فرَّط الإنسان في طلب الحق، بأن كان متهاوناً، ورأى ما عليه الناس ففعله دون أن يبحث: فهذا قد يكون آثماً، بل هو آثم بالتقصير في طلب الحق، وقد يكون غير معذور في هذه الحال، وقد يكون معذوراً إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل مخالفة، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذوراً، ولهذا كان القول الراجح: أنه لو عاش أحدٌ في البادية بعيداً عن المدن، وكان لا يصوم رمضان ظنّاً منه أنه ليس بواجب، أو كان يجامع زوجته في رمضان ظنّاً منه أن الجماع حلال: فإنه ليس عليه قضاء؛ لأنه جاهل، ومن شرط التكليف بالشريعة أن تبلغ المكلف فيعلمها.

فالخلاصة إذاً: أن الإنسان يعذر بالجهل، لكن لا يعذر في تقصيره في طلب الحق.

" لقاءات الباب المفتوح " (٣٩ / السؤال رقم ٣) .

٦. وسئل الشيخ رحمه الله:

ما رأي فضيلتكم بمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم يذبح لغير الله، فهل يكون مسلماً؟ مع العلم أنه نشأ في بلاد الإسلام؟ .

الشيخ:

الذي يتقرب إلى غير الله بالذبح له: مشرك شركاً أكبر، ولا ينفعه قول " لا إله إلا الله "، ولا صلاة، ولا غيرها، اللهم إلا إذا كان ناشئاً في بلاد بعيدة، لا يدرون عن هذا الحكم، فهذا معذور بالجهل، لكن يعلَّم، كمن يعيش في بلاد بعيدة يذبحون لغير الله، ويذبحون للقبور، ويذبحون للأولياء، وليس عندهم في هذا بأس، ولا علموا أن هذا شرك أو حرام: فهذا يُعذر بجهله، أما إنسان يقال له: هذا كفر، فيقول: لا، ولا أترك الذبح للولي: فهذا قامت عليه الحجة، فيكون كافراً.

السائل:

فإذا نُصح وقيل له: إن هذا شرك، فهل أُطلق عليه إنه " مشرك " و " كافر "؟ .

الشيخ:

نعم، مشرك، كافر، مرتد، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.

السائل:

وهل هناك فرق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية؟ .

الشيخ:

الخفية تُبيَّن، مثل هذه المسألة، لو فرضنا أنه يقول: أنا أعيش في قوم يذبحون للأولياء، ولا أعلم أن هذا حرام: فهذه تكون خفية؛ لأن الخفاء والظهور أمر نسبي، قد يكون ظاهراً عندي ما هو خفيٌ عليك، وظاهرٌ عندك ما هو خفيٌّ عليَّ.

السائل:

وكيف أقيم الحجة عليه؟ وما هي الحجة التي أقيمها عليه؟ .

الشيخ:

الحجة عليه ما جاء في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) الأنعام/ ١٦٢، ١٦٣، وقال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) الكوثر/ ١، ٢، فهذا دليل على أن النحر للتقرب والتعظيم عبادة، ومن صرف عبادة لغير الله: فهو مشرك....

فإذا بلغت الحجة وقيل له: هذا الفعل الذي تفعله شرك، فَفَعَلَه: لم يُعذر.

السائل:

إذن يعرَّف؟ .

الشيخ:

نعم، لا بدَّ أن يُعرَّف.

السائل:

هناك شبهة وهي أنه يقال: إن فعله شرك وهو ليس بمشرك! فكيف نرد؟ .

الشيخ:

هذا صحيح، ليس بمشرك إذا لم تقم عليه الحجة، أليس الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) قال كفراً؟ ومع ذلك لم يكفر؛ لأنه أخطأ من شدة الفرح، وأليس المُكره يُكره على الكفر فيكفر ظاهراً لا في قلبه، وقلبه مطمئن بالإيمان؟ والعلماء الذين يقولون: " كلمة كفر دون صاحبها "، هذا إذا لم تقم عليه الحجة، ولم نعلم عن حاله، أما إذا علمنا عن حاله: فما الذي يبقى؟ نقول: لا يكفر؟ معناه: لا أحد يكون كافراً؟ أي: لا يبقى أحد يكفر، حتى المصلي الذي لا يصلي نقول: لا يكفر؟ حتى ابن تيمية يقول: إذا بلغته الحجة: قامت عليه الحجة ... ولا يكفي مجرد بلوغ الحجة حتى يفهمها؛ لأنه لو فرضنا أن إنساناً أعجميّاً وقرأنا عليه القرآن صباحا ومساء لكن لا يدري ما معناها: فهل قامت عليه الحجة؟ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) إبراهيم/٤.

" لقاءات الباب المفتوح " (٤٨ / السؤال رقم ١٥) :

ونرجو أن يكون الأمر قد وضح، وأن تكون قد تبيَّنتَ حقيقة كلام الشيخ العثيمين رحمه الله، وأنه يرى أن الأصل هو العذر بالجهل، ويتأكد هذا في حال من يسلم حديثاً، أو من يعيش بعيداً عن أماكن العلم، أو من يعيش بين قوم لم يخطر ببالهم أنهم يخالفون الشرع، وهم في الواقع واقعون بأفعالهم في الشرك الأكبر.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>