من مات شهيدا في سبيل الله يأمن سؤال القبر
[السُّؤَالُ]
ـ[بعض المؤمنين، من الذين قاموا بأعمال جليلة، أو أصيبوا بمصائب كبيرة، يأمنون فتنة القبر وعذابه، ومن هؤلاء الشهيد: فقد روى المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه) رواه الترمذي وابن ماجه. وروى النسائي في سننه عن راشد بن سعد، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن رجلا قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) وسنده صحيح. سؤالي هو: ما مدى صحة هذه الأحاديث..؟؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
المقرر في عقائد المسلمين أن الأموات يُفتَنون – أي يُسألون ويُمتحنون – في قبورهم، فقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أصحها وأظهرها قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلَاثًا. فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) رواه البخاري (٨٦) ومسلم (٩٠٥)
يقول الإمام السيوطي رحمه الله:
" أطبق العلماء على أن المراد بقوله: (يُفتنون) ، و (بفتنة القبر) سؤال الملكين: منكر ونكير، والأحاديث صريحة فيه، ولهذا سُمِّيَ ملكا السؤال " الفتَّانين " " انتهى.
"الحاوي للفتاوي" (٢/١٧٥)
ولكن جاءت أحاديث أخرى تخصص هذا الحديث، وتستثني من عموم الفتنة أناسا صدقوا الله في الدنيا، فرفع الله عنهم فتنة القبر وسؤاله.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله:
" اعلم رحمك الله أن هذا الباب – يعني الذين يأمنون فتنة القبر - لا يعارض ما تقدم من الأبواب – يعني عموم فتنة القبر -، بل يخصها، ويبين مَن يُسأل في قبره ولا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال ويقاسي تلك الأهوال، وهذا كله ليس فيه مدخل للقياس، ولا مجال للنظر فيه، وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل للعباد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه إلى يوم التناد " انتهى.
"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/٤٢٣)
ومن هؤلاء الذين يأمنون فتنة القبر: الشهيد.
دليله: ما رواه رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟
قَالَ: (كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً)
رواه النسائي (رقم/٢٠٥٣) ، وحسنه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (٥/٧٤٣) ، وصححه الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" (ص/٥٠)
ويدل على ذلك أيضا: الحديث الأول المذكور في السؤال: (للشهيد عن الله ست خصال..)
والحديث رواه الإمام أحمد (١٦٧٣٠) والترمذي (١٦٦٣) وابن ماجة (٢٧٩٩) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الألباني.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله:
" قوله صلى الله عليه وسلم في الشهيد: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ، معناه: أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق، كان إذا التقى الزحفان وبرقت السيوف: فروا؛ لأن من شأن المنافق الفرار والروغان عند ذلك، ومن شأن المؤمن البذل والتسليم لله نفسا، وهيجان حمية الله، والتعصب له لإعلاء كلمته، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره، حيث برز للحرب والقتل، فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر؟ قاله الحكيم الترمذي " انتهى.
"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/٤٢٤) .
ويقول المناوي رحمه الله:
" (ببارقة السيوف) أي: بلمعانها. قال الراغب: البارقة: لمعان السيف.
(على رأسه) يعني: الشهيد.
(فتنة) : فلا يفتن في قبره، ولا يسأل، إذ لو كان فيه نفاق لفر عند التقاء الجمعين، فلما ربط نفسه لله في سبيله ظهر صدق ما في ضميره. وظاهره اختصاص ذلك بشهيد المعركة، لكن أخبار الرباط تؤذن بالتعميم " انتهى.
"فيض القدير" (٥/٦)
وسئل الحافظ ابن حجر الهيتمي رحمه الله السؤال الآتي:
هل يسأل الشهيد؟
فأجاب:
" لا، كما صرح به جماعة، واستدل له القرطبي بخبر مسلم: (هل يفتن الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ، قال: ومعناه أن السؤال في القبر إنما جعل لامتان المؤمن الصادق في إيمانه من المنافق، وثبوته تحت بارقة السيوف أدل دليل على صدقه في إيمانه، وإلا لفر للكفار. قال: وإذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أولى لأنه أجل قدرا.ووردت أحاديث أن المرابط لا يسأل أيضا، وكذا المطعون، والصابر في بلد الطعن محتسبا ومات بغير الطاعون، كما في بذل الماعون لشيخ الإسلام ابن حجر. والله تعالى أعلم " انتهى.
"الفتاوى الفقهية الكبرى" (٢/٣٠) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم. قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) التوبة/١١١، وقال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران/١٦٩. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ، وإذا كان المرابط إذا مات أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرَّض رقبته لعدو الله؛ إعلاء لكلمة الله، وانتصارا لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه " انتهى.
"مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين" (٨/٤٧٧)
وقد جمع الإمام القرطبي في "التذكرة لأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص/٤١٥-٤٢٦) طبعة دار المنهاج، وكذلك العلامة ابن القيم في كتابه " الروح " (ص/٧٩-٨٢) الأسباب المنجية من عذاب القبر وفتنة القبر بالتفصيل، فمن أراد الاطلاع عليها والتوسع فيها فليرجع إلى هذين الكتابين، وإن كان في بعض ما ذكراه توقف ونظر.
وانظر جواب السؤال رقم: (١٠٤٠٣) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب