أحاديث ذم العزوبة كلها باطلة
[السُّؤَالُ]
ـ[أريد شرح وتفسير هذه الأحاديث النبوية، وهل هي صحيحة؟ روي عن رسول الله صلى الله وسلم أنه قال: ١- (تزوج وإلا فأنت من إخوان الشياطين) ٢- (النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ٣- (أراذل موتاكم العزاب) بارك الله فيكم , مع خالص الشكر والتحية.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
ثبت في السنة النبوية الصحيحة الحث على الزواج والترغيب في النكاح، وجاءت بذلك شواهد الكتاب والسنة المتكاثرة، وذلك لما في الزواج من فضيلة ظاهرة ومحاسن كثيرة، وقد سبق في موقعنا بيان الكثير من ذلك بالشرح والتفصيل:
فانظر مثلا أرقام الإجابات الآتية: (٥٥١١) ، (٣٤٦٥٢)
ومن الأحاديث التي تحث على الزواج ما جاء في الصحيحين: البخاري (٥٠٦٣) ومسلم (١٤٠١) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:
(جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا!! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)
لكن لا يصلح هذا الحديث أن يكون دليلا على ذم العزوبة وترك الزواج مطلقا، إلا إذا ترك الزواج رهبانية وتقربا إلى الله بهذا الترك، وظنا أن العزَب أفضل من المتزوج، فحينئذ يشمله هذا الحديث، ويكون ممن تبرأ منهم النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتح الباري" (٩/١٠٥-١٠٦) :
" المراد بـ "السنة" الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد: مَن ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وَفَوْهُ بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل.
وقوله: (فليس مني) إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى " فليس مني " أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة.
وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله فمعنى (فليس مني) : ليس على ملتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر.
وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه " انتهى.
إذن فليس في الحديث دلالة على ذم العزوبة بالإطلاق، خاصة إذا كانت نتيجةَ ظروف أو عدم رغبة في النكاح أو مرض أو نحو ذلك من الأعذار، وكيف تأتي الشريعة بذم من لا يستحق الذم، ومن كان قَدَرُه ألا يجتمع بزوجة يأنس إليها وتأنس إليه!!
والغريب أن بعض الكذابين أرادوا أن يناقضوا أولئك الذين يذمون العزوبة مطلقا، فوضعوا من الأحاديث في مدح العزوبة، وكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضا، حتى قال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" (ص/١٧٧) : " أحاديث مدح العزوبة كلها باطلة " انتهى.
من هنا تعلم أنه لا يصح حديث في ذم العزوبة ولا في مدحها، وكل حديث فيه ذم للعَزَب وتنقيصٌ لقدره فهو حديثٌ باطلٌ أو منكر، فقد جمع العلماء هذه الأحاديث ودرسوها فلم يجدوا فيها شيئا صحيحا ثابتا.
يقول الإمام السخاوي في "المقاصد الحسنة" (١٣٥) بعد أن ذكر شيئا من أحاديث ذم العزوبة:
" إلى غيرهما من الأحاديث التي لا تخلو من ضعف واضطراب، ولكنه لا يبلغ الحكم عليه بالوضع " انتهى. وبمثله قال الفتني في "تذكرة الموضوعات" (١٢٥)
ثانيا:
أما حديث: (تزوج وإلا فأنت من إخوان الشياطين) وحديث (أراذل موتاكم العزاب) .
فقد جاءا في حديث عُكاف بن وداعة الهلالي من طرق كلها ضعيفة، قال فيها الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (٤/٥٣٦) بعد أن ذكرها في ترجمته: " والطرق المذكورة كلها لا تخلو من ضعف واضطراب " انتهى. وقال في "تعجيل المنفعة" (٢/٢٠) : " لا يخلو طريق من طرقه من ضعف " انتهى.
وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (٢/٦٠٩) :
" هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قالوا لا يصح من هذا شيء " انتهى.
وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة": " والأسانيد فيه كلها ضعيفة " انتهى.
وحكم عليه الشيخ الألباني بالنكارة في "السلسلة الضعيفة" (٢٥١١) (٦٠٥٣)
وطرقه مضطرب، تجتمع عند مكحول الدمشقي الثقة فقيه أهل الشام "تهذيب التهذيب" (١٠/٢٩٢) إلا أن الضعف في الطريق الموصلة إليه، أو في الشيخ الذي أخذ عنه:
١- فقد جاء من طرق عن بُرد بن سنان – وهو ثقة – عن مكحول عن عطية بن بسر الهلالي عن عكاف بن وداعة الهلالي، ولفظه:
(أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عكاف! ألك امرأة؟ قال: لا. قال: فجارية؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم. قال: فأنت إذا من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فإن من سنتنا النكاح، يا ابن وداعة! إن شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم، يا بن وداعة! إن المتزوجين المبرءون من الخنا، أبا الشيطان تمرسون، والذي نفسي بيده ما للشيطان سلاح أبلغ - وقال بعضهم أنفذ - في الصالحين من الرجال والنساء من ترك النكاح، يا ابن وداعة! إنهن صواحب أيوب وداود ويوسف وكرسف، قال: بأبي وأمي يا رسول الله وما كرسف؟ قال: رجل عبد الله على ساحل البحر خمسمائة عام - وقال بعضهم ثلاثمائة عام - يقوم الليل ويصوم النهار، فمرت به امرأة فأعجبته فتنها، وترك عبادة ربه وكفر بالله، وتدارك الله عز وجل بما سلف فتاب عليه، قال: بأبي وأمي يا رسول الله زوجني؟ قال: زوجتك باسم الله والبركة زينب بنت كلثوم الحميرية)
رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (٣/٣٥٦) وابن قانع في "معجم الصحابة" (١٢٧٤)
وعلة هذه الرواية عطية بن بسر، قال العقيلي: لا يتابع عليه. ثم أسند إلى البخاري قوله: عطية بن بسر عن عكاف بن وداعة لم يقم حديثه. وقال ابن حبان في "الثقات" (٥/٢٦١) : " عطية بن بسر، شيخ من أهل الشام، حديثه عند أهلها، روى عنه مكحول في التزويج متنا منكرا، وإسناده مقلوب " انتهى.
٢- وجاء من طريق محمد بن راشد عن مكحول عن رجل عن أبي ذر فذكر نحوه، ولكن في لفظه: (تزوج وإلا فأنت من المذبذبين)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (٦/١٧١/١٠٣٨٧) ، وعنه أحمد (٥/١٦٣) ، وعنه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (٢/١١٨)
وعلة هذه الطريق جهالة شيخ مكحول، ولعله هو عطية بن بسر الهلالي المذكور في الرواية السابقة. أما محمد بن راشد فكلام الأئمة على توثيقه. "تهذيب التهذيب" (٩/١٦٠)
٣- من طريق معاوية بن يحيى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن عطية بن بسر المازني.
أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (٤/١٩٥) وأبو يعلى في "مسنده" (١٢/٢٦٠) وبحشل في "تاريخ واسط" (ص٢٠١) وابن حبان في "المجروحين" (٣/٣) والطبراني في "المعجم الكبير" (١٨/٨٥ - ٨٦) ، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (٣/٣٥٦) والبيهقي في "شعب الإيمان" (٤/٣٨١) وابن الأثير في "أسد الغابة" (٤/٤٣)
وهو عند أبي نعيم في "معجم الصحابة" (٤٩٦١) بشكل مختلف، ولكن العلة واحدة وهي في معاوية بن يحيى الصدفي، جاء في "تهذيب التهذيب" (١٠/٢٢٠)
قال ابن معين: هالك ليس بشىء. وقال أبو زرعة: ليس بقوى، أحاديثه كأنها مقلوبة.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، فى حديثه إنكار. وقال أبو داود: ضعيف. وقال النسائى: ضعيف. وقال أبو أحمد بن عدى: عامة رواياته فيها نظر.
وقال ابن حبان في "المجروحين" (٢/٣٣٥) : فيه معاوية بن يحيى منكر الحديث جدا، تغير حفظه فكان يحدث بالوهم فيما سمع " انتهى.
وكذا أعله الدارقطني في "التعليقات على المجروحين" (٢٥٥) والزيلعي في "تخريج الكشاف" (٢/٤٣٩) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (٤/٢٥٣)
والحاصل أن طرق هذا الحديث كلها ساقطة واهية، ولا يقوي بعضها بعضا لما فيها من النكارة والاضطراب، والمتن منكر كما سبق بيانه.
ثالثا:
أما حديث (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) فلفظه، كما رواه ابن ماجه (١٨٤٦) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ، وَمَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ)
وفي إسناده عيسى بن ميمون، وهو ضعيف؛ قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. انظر: ميزان الاعتدال (٤/٢٤٥-٢٤٦) .
ولأجل ذلك قال البوصيري في تخريج حديث عائشة السابق: " إِسْنَاده ضَعِيف لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى ضَعْف عِيسَى بْن مَيْمُون الْمَدِينِيّ، لَكِنْ لَهُ شَاهِد صَحِيح. " اهـ
وانظر السلسلة الصحيحة (٢٣٨٣) .
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب