للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

شعور الحب نحو الناس يتفاوت

[السُّؤَالُ]

ـ[ما هو السبب الذى يجعل المسلم يُكِنُّ مشاعر الحب لقليل من المسلمين دون غيرهم؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

للمسلم على المسلم حقوق كثيرة، منها:

حق الأخوة الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات/١٠

وله حق الولاية والنصرة المذكور في قوله سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) التوبة/٧١

كما للمسلم على المسلم حق حب الخير له، وإرادة السعادة والتوفيق من غير بغض ولا حسد ولا حقد.

عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) رواه البخاري (١٣) ومسلم (٤٥)

وبقدر هذه الحقوق ينشأ في القلب قدر من المحبة لجميع المسلمين، عربيهم وعجميهم، قريبهم وبعيدهم، أبيضهم وأسودهم، يبعث عليه عقيدة التوحيد المشتركة بينهم، وهي محبة تابعة لحب الله تعالى المغروس في قلب كل مسلم، لأن من أحب شيئا أحب من أحبه أيضا.

ومع ذلك فتفاوت قدر محبة المسلم للمسلم ليس بمستغرب ولا مستنكر، ولا حرج فيه شرعا ولا طبعا، وذلك لسببين مهمين:

السبب الأول: تفاوت المسلمين في الصلاح والتقوى، وتفاضلهم في مراتب الخُلُق والأدبِ والمروءات، ولما كانت المحبة ناشئة أصلا بسبب التزام المسلم بأوامر الله، تفاوتت هذه المحبة بحسب تفاوت الاستقامة من مسلم لآخر.

وهذا أمر مقرر معلوم، ألا ترى أنه يجب على المسلم أن يحب جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب عليه مع ذلك أن يخص العشرة المبشرين بالجنة بمزيد محبة وإجلال وتقدير، وما ذلك إلا لتفاوت قدرهم عند الله تعالى.

السبب الثاني: قيام أسباب المحبة الأخرى في بعض المسلمين دون الآخرين، فالمحبة ليست مقصورة على سبب واحد، وهو الاستقامة على طاعة الله، بل لها أسباب أخرى كثيرة: منها المناسبة بين قلب المحبوبين، والمشاكلة الروحية بينهما، والإحسان والمعروف من أهم أسباب قيام المحبة أيضا، كما أن جمال الروح والصورة من أهم بواعث المحبة.

فإذا اجتمعت هذه الأسباب أو بعضها في أحد الناس عظمت محبته، وقويت مودته، وكان إلى القلوب أقرب من غيره.

ونحن ننقل هنا كلاما مفيدا للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله، يشرح فيه دواعي المحبة وأسبابها، وكيف تتفاوتت هذه الدواعي بين الناس، فيقول رحمه الله:

" التناسب الذي بين الأرواح من أقوى أسباب المحبة، فكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه، وهذه المناسبة نوعان: أصلية من أصل الخلقة. وعارضة بسبب المجاورة أو الاشتراك في أمر من الأمور.

فإن من ناسب قصدُك قصدَه حصل التوافق بين روحك وروحه، فإذا اختلف القصد زال التوافق.

فأما التناسب الأصلي فهو اتفاق أخلاق، وتشاكل أرواح، وشوق كل نفس إلى مشاكلها، فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، فتكون الروحان متشاكلتين في أصل الخلقة، فتنجذب إليه بالطبع.

وهذا الذي حمل بعض الناس على أن قال: إن العشق لا يقف على الحسن والجمال، ولا يلزم من عدمه عدمه، وإنما هو تشاكل النفوس وتمازجها في الطباع المخلوقة، كما قيل:

وما الحب من حسن ولا من ملاحة ... ولكنه شيء به الروح تكلف

فحقيقته أنه مرآة يبصر فيها المحب طباعه ورقته في صورة محبوبة، ففي الحقيقة لم يحب إلا نفسه وطباعه ومُشاكله.

ولهذا كانت النفوس الشريفة الزكية العلوية تعشق صفات الكمال بالذات، فأحب شيء إليها العلم والشجاعة والعفة والجود والإحسان والصبر والثبات لمناسبة هذه الأوصاف لجوهرها، بخلاف النفوس اللئيمة الدنية، فإنها بمعزل عن محبة هذه الصفات، وكثير من الناس يحمله على الجود والإحسان فرط عشقه ومحبته له، واللذة التي يجدها في بذله، كما قال المأمون: لقد حُبِّب إلي العفو حتى خشيت أن لا أؤجر عليه. وقيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: تعلمت هذا العلم لله؟ فقال: أما لله فعزيز، ولكن شيء حبب إلي ففعلته. وقال آخر: إني لأفرح بالعطاء وألتذ به أكثر وأعظم مما يفرح الآخذ بما يأخذه مني.

وأما عشاق العلم فأعظم شغفا به وعشقا له من كل عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر.

وحدثني شيخنا – يعني ابن تيمية - قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض. فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة. فقال: هذا خارج عن علاجنا أو كما قال.

فإذا كانت المحبة بالمشاكلة والمناسبة ثبتت وتمكنت، ولم يُزِلها إلا مانع أقوى من السبب.

وإذا لم تكن بالمشاكلة فإنما هي محبة لغرض من الأغراض، تزول عند انقضائه وتضمحل. وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن امرأة كانت تدخل على قريش فتضحكهم، فقدمت المدينة، فنزلت على امرأة تضحك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على مَن نزلت فلانة؟ قالت: على فلانة المضحكة. فقال: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. وأصل الحديث في الصحيح.

وأنت إذا تأملت الوجود لا تكاد تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة أو اتفاق في فعل أو حال أو مقصد، فإذا تباينت المقاصد والأوصاف والأفعال والطرائق لم يكن هناك إلا النفرة والبعد بين القلوب، ويكفي في هذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) " انتهى باختصار.

"روضة المحبين" (٦٦-٧٤)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>