لديه الرغبة في دراسة الشريعة، ومتخوف من مستقبلها الوظيفي
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا الآن على مشارف اختبارات الثانوية العامة، وحقيقة: أني محتار جدّاً في تخصص دراستي الجامعية، أنا لديَّ الرغبة جدّاً في دراسة العلوم الشرعية، وأحبها، وأستمتع بها، وأطمح أن أكون عالماً، مفتياً، خطيباً، حصولي على شهادة الدكتوراة، لكني أواجه ردود أفعال كثيرة، منهم: من يقول إذا تخرجت أين تعمل؟ مدرس مثلاً؟ مرتبها قليل، اذهب إلى كلية الإدارة، أو الهندسة للحصول على مقعد ممتاز في العمل، ومِن ثمَّ خذ شهادة الشريعة انتساباً، مثل عدة مشايخ ... وإلخ من هذا الكلام، وبعضهم يقول: اذهب إلى الشريعة، الأمة محتاجة إلى علماء، ومفتين، علماً أن أبي مهندس، وأمي مدرِّسة رياضيات، واثنين من إخواني مهندسين، واثنين من أخواني - أيضاً - من كلية الإدارة الصناعية، ووضعنا المادي ممتاز - ولله الحمد -، لكن أخاف مستقبلاً إذا تخرجت من الشريعة أكون أقلَّ منهم ماديّاً، فلذلك أود أن تنصحني؛ لأنني بين أمرين مهمين في حياتي، وشكراً.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله تعالى أن يكتب لك النجاح والتوفيق في دراستك، واختباراتك وأمورك كلها.
أولاً:
لاشك أن أعظم ما صرفت فيه الأوقات , وبذلت فيه الأموال: طلب العلم الشرعي؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يثن في شيء من كتابه كما أثنى على العلم، وأهله، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) الزمر/ ٩، وقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر/ ٢٨.
قال ابن كثير رحمه الله:
أي: إنما يخشاه حق خشيته: العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم، القدير، العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى , كلما كانت المعرفة به أتمّ، والعلم به أكمل: كانت الخشية له أعظم، وأكثر.
" تفسير ابن كثير " (٦ / ٥٤٤) .
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) رواه البخاري (٧١) ومسلم (١٠٣٧) .
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَيْتُكَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: وَلَا جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) رواه الترمذي (٢٦٨٢) وأبو داود (٣٦٤١) وابن ماجه (٢٢٣) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح الترغيب " (١/١٧) .
قال ابن القيم رحمه الله في وصف العلم الشرعي -:
وهو الحاكم، المفرق بين الشك واليقين , والغي والرشاد , والهدى والضلال , وبه يُعرف الله، ويُعبد، ويُذكر، ويُوحد، ويُحمد، ويُمجد , وبه اهتدى إليه السالكون , ومن طريقه وصل إليه الواصلون , ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تُعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام , وبه توصل الأرحام , وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب , وهو إمام، والعمل مأموم , وهو قائد، والعمل تابع , وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة , والكاشف عن الشبهة , والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه , والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه؛ مذاكرته تسبيح , والبحث عنه جهاد , وطلبه قُربة , وبذله صدة , ومدارسته تعدل بالصيام والقيام , والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: " الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين , وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " , وروِّينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: " طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ".
" مدارج السالكين " (٢ / ٤٦٩، ٤٧٠) .
فلا ريب أن العلم الشرعي هو أفضل العلوم وأوْلاها , وبه يتحصل الإنسان خير الدنيا والآخرة , وهو مقدَّم على سائر العلوم، لا سيما إذا خلصت فيه نية الإنسان , وكان له رغبة وهمَّة في تحصيله وطلبه.
وانظر جواب السؤال رقم: (١٠٤٧١) .
ثانياً:
حثَّ الإسلام على طلب الكفاية في العلوم الدنيوية , وجعل طلبها واجباً كفائيّاً , وخصوصاً إذا احتاجت الأمة لتلك العلوم , كالعلوم العصرية المتقدمة.
فمَن تعلم العلوم الدنيوية ونيته أن يُصلح للمسلمين أمورَهم في معاشهم , ورفع مكانتهم، والاكتفاء عن الأمم الكافرة: فلا شك أن أجره عظيم، ويثاب على هذا العلم الذي يتعلمه , مع بيان أن الجمع بين العلوم الدينية والدنيوية أمر مقدور عليه , ولا يتنافيان , وقد كان كثير من العلماء السابقين يجمعون بين تخصصات مختلفة، فابن قيم الجوزية رحمه الله كان مبرزاً في العلوم الشرعية، ولا تخفى مكانته فيه , وكذلك كان مبرزاً في علوم الطب , ولا أدل على ذلك من كتابه " الطب النبوي " – وهو الجزء الرابع من كتابه " زاد المعاد " -، وهكذا الحال مع علماء آخرين.
وانظر جواب السؤال رقم: (٢٩٩٩) .
ثالثاً:
يجب أن يُعلم أنه لا بد للمسلم من أن يجرد نيته عن الحظوظ الدنيوية في طلبه للعلم الشرعي , وأن يكون هدفه الأجر والثواب من الله , فهذا أدعى لبقاء العلم، وانتفاع صاحبه به , وقبول الناس له، ولعلمه , فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ , وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَهَانُوا عَلَيْهِمْ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ) رواه ابن ماجه (٢٥٧) ، وحسَّنه الألباني في " صحيح ابن ماجه ".
وعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَاّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود (٣٦٦٤) وابن ماجه (٢٥٢) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
عَرفها: يَعْنِي: رِيحَهَا.
وطلب العلم الشرعي لا يتوقف على الدراسة النظامية في الكليات الشرعية، غير أن الحصول على تلك الشهادة صار مهماً حتى يتمكن طالب العلم من التدريس والإمامة والخطابة ... ونفع الناس.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - في بيان آداب طلب العلم -:
"الأمر الأول: إخلاص النية لله عز وجل: بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله، والدار الآخرة ...
وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة، أو رتبة: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) - يعني: ريحها -، وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا، ولكن لأن النظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته، فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليماً، أو إدارة، أو نحوها: فهذه نية سليمة، لا تضره شيئاً؛ لأنها نية حق" انتهى باختصار.
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " (٢٦ / ٦٥، ٦٦) ، و " كتاب العلم " (ص ٢١) .
رابعاً:
من المقرر في كتاب الله تعالى , وفي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم: أن من اتقى الله تعالى: كفاه الله ما أهمه، وأشغله , قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب) الطلاق/ ٢، ٣.
وقد تكفل الله تعالى برزق البلاد التي يتقي أهلها ربهم تعالى، فكيف بآحادهم، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) الأعراف/ ٩٦، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) المائدة/ ٦٦.
فالشاهد: أن أهل الخير والتقوى والصلاح: يكفيهم الله سبحانه وتعالى أمر دنياهم، فلا تخش - أخي السائل - من المستقبل , وتأكد أن الله سيكفيك أمر دنياك، وآخرتك، إن كانت نيتك في طلب العلم لله.
ولو ابتلي المؤمن بنقص في ماله، أو دنياه: فهو يحتسب ذلك لجنَّة عرضها السموات والأرض، أعدها الله للمتقين , ولتعلم أن المقياس في السعادة، والطمأنينة، والراحة، ليس في كثرة الأموال، أو الجاه، وإنما في طاعة الله تعالى , فخير الأعمال التي يندب الاشتغال لها: تعليم الناس الخير , فمعلِّم الناس الخير يستغفر له مَن في السموات، ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء , وهم أهل الخشية والتقوى , ولهم المنزلة والجاه العظيم في الدنيا والآخرة.
فالنصيحة لك ما دامت همتك، ومحبتك، ورغبتك أن تطلب العلم الشرعي: أن تسعى في تحصيل ذلك , ولا بأس أن تطلب الشهادة مع ذلك , ولكن مع تجريد النية والإخلاص لله تعالى في طلب العلم نفسه , وأن تكون هذه الشهادة عندك وسيلة لنيل العلم، وتعليم الناس، والدعوة إلى الله تعالى , ووسيلة للعمل الذي تفرضه كثير من القوانين لكثير من الوظائف، ولا تخف من المستقبل من قلة مال، أو دنيا، أو عدم إيجاد وظيفة؛ فالله سبحانه سيكفيك هموم ذلك كله , فمن صدق الله صدق الله معه.
وبما أن أهلك من المثقفين، والعقلاء: فيمكنك إقناعهم بدراسة الشريعة بسهولة، وذلك بإخبارهم
أن هذه رغبتك، وهم يعلمون أن دراسة ما لا رغبة فيه: فاشلة، ولا تؤتي ثمارها، وأن دراسة ما فيه رغبة: فيها النجاح، والإبداع، والراحة.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعطيك ما تتمنى، وأن يجعلك من أهل العلم، وطلبته.
وانظر – للأهمية – جواب السؤال رقم: (١١٠٤١٩) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب