للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

الألقاب الدينية بين الإسلام والنصرانية

[السُّؤَالُ]

ـ[ما هو الفرق بين لقبي " شيخ " و " إمام "؟ وما هي المؤهلات التي يجب أن تكون لدى من يحصل على هذين اللقبين؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

الدين الذي اصطفاه الله سبحانه وتعالى هو دين التوحيد، الإسلام، ولأجله بعث الرسلَ وأَنزَلَ الكتب، ومن فضله سبحانه على عباده أن حفظ هذا الدين، وكتب له البقاء والدوام بحفظ أصوله وثوابته من خلال العلماء الربانيين الصادقين، الذين يحملون أمانة الوحي ويؤدونها كما أمرهم ربهم عز وجل.

وقد وقع في تاريخ الأمم السابقة من التحريف والتشويه لمضمون رسالات الأنبياء الشيء الكثير، حيث ضيَّع أكثر علمائهم الأمانة، واشتروا بعهد الله ثمنا قليلا، فأطغاهم الهوى والشيطان، وأحدثوا في دينهم ما لم يأذن به الله، وكان من أخطر ما شوهوا به رسالات الأنبياء مبدأ " الواسطة " بين الحق والخلق، بين الرب العظيم وبين عباده، أرادوا بها حفظ عروش الطغيان التي تجبروا بها على الخلق، وتعليق مصائرهم بأيديهم، من خلال حكم الهيئة الناطقة باسم " السماء "، اخترعوا لهذه الهيئة ألقابا وأسماء، ووضعوها على مراتب ومدارج، يرتقي " رجل الدين " في طبقاتها المرسومة باسم " الرب "، حتى يبلغ مرحلة النيابة عن " الله " في مرتبة " الحبر الأعظم " أو ما يسمى " البابا "

يقول المؤرخ الانجليزي " ويلز " في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية" (٣/٧٢٠) :

" بيد أن مسيحية القرن الرابع الكاملة التكوين، وإن احتفظت بتعاليم يسوع في الأناجيل كنواة لها، كانت في صلبها ديانة كهنوتية من طرازٍ مألوفٍ للناس من قبل منذ آلاف السنين، وكان " المذبح " مركز طقوسها المنمَّقة، والعملُ الجوهري في العبادة فيها هو القربان الذي يقربه قسيس متكرس للقداس، ولها هيئة تتطور بسرعة مكونة من الشمامسة والقساوسة والأساقفة " انتهى.

وقد أخذت هذه الهيئة سلطتها وطريقة ترتيبها من الهيكل السياسي للإمبراطورية الرومانية كما يقول فضيلة الشيخ سفر الحوالي في كتابه "العلمانية" (٧٩) :

" وساعد وجودهم – يعني القساوسة والرهبان - ضمن الإمبراطورية الرومانية على تثبيت مراكزهم وتدعيمها، وذلك بأنهم اقتبسوا من الأنظمة والهياكل السياسية للدولة فكرة إنشاء أنظمة وهياكل كهنوتية، وكما كانت هيئة الدولة تمثل هرماً قمته الإمبراطور وقاعدته الجنود، كانت الهيئة الكنسية تمثل هرماً مقابلاً: قمته " البابا "، وقاعدته " الرهبان "، ونتيجة لمبدأ فصل الدين عن الدولة رعت الإمبراطورية الهرم الكنسي، ولم تر فيه ما يعارض وجودها، فَرَسَخَ واستقر " انتهى.

أما في شريعة الإسلام المحفوظة، فلا تجد طبقية تكرس التسلط والتجبر، ولا تجد إلا نصوص المساواة في العبودية بين جميع الخلق، أفضلهم أتقاهم، وأقربهم إلى الله أقومهم بشرعه.

يقول الله عز وجل: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات/١٣

ويقول سبحانه: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الأحقاف/١٩

بل إن جوهر شريعة الإسلام يقوم على إلغاء وساطات قطاع الطرق، الذين يحولون بين العباد وبين الله، باسم " الوساطة " أو " الشفاعة "، وتنسب ذلك للمشركين الذين حاربوا رسالة التوحيد. يقول الله عز وجل عنهم: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يونس/١٨

يقول العالم الفرنسي المهتدي "ناصر الدين دينيه":

" الوسيلة هي إحدى كبريات المسائل التي فاق بها الإسلام جميع الأديان، إذ ليس بين الله وعبده وسيط، وليس في الإسلام قساوسة ولا رهبان، إن هؤلاء الوسطاء هم شر البلايا على الأديان، وإنهم لكذلك مهما كانت عقيدتهم، ومهما كان إخلاصهم وحسن نياتهم، وقد أدرك المسيح نفسه ذلك، ألم يطرد بائعي " الهيكل "؟ غير أن أتباعه لم يفعلوا مثلما فعل، واليوم لو عاد عيسى فكم يطرد من أمثال بائعي الهيكل؟ " انتهى. نقلا عن "العلمانية" (ص/٨١)

أما منزلة فقهاء الشريعة وعلماء الدين، فهي مرتبة علمية صرفة، تعني قيام مؤهل العلم والمعرفة في حاملها، بناء على دراسته وتحصيله العلمي الذي يتلقاه من الجامعة أو حلقات العلم أو الكتب، ولا ترتسم بهيئات دينية مرتبة، ولا بطقوس كهنوتية تمنحهم سلطانا باسم الرب، إنما هي درجة من التخصص المعرفي – كأي حقل من حقول المعرفة التي يدرسها المتخصصون – وهم في دائرة الصواب والخطأ، وفي دائرة النقد المبني على الدليل، وليس لأحد منهم من الأمر شيء، فلا يحل ولا يحرم، ويأمر ولا ينهى، إلا رب العالمين، وما هم إلا مبلغين لشرعه، ومعلمين للناس ما أتاهم من عند رب العالمين، ثم هم ـ أيضا ـ كما أشرنا ليسوا معصومين في فهمهم لما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في حفظه وتبليغه، وإنما الحكم المعصوم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي يرجع إليه عند الاختلاف: هو وحي الله تعالى: كتابه الكريم، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ما أجمعت عليه الأمة، فإن أمته صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة.

وما الألقاب والأسماء التي أطلقها العلماء على بعضهم، أو يطلقها الناس في كلامهم إلا تسمياتٌ لهذه المرتبة " مرتبة العلم بأحكام الشريعة "؛ وقد يكون فيها نوع من التمييز للعلم الذي تخصص به، مثل لقب: "الفقيه" أو "المفتي"، لمن كانت عنايته بالفقه والفتوى، أو: "المفسر"، لمن كانت عنايته بتفسير كتاب الله عز وجل، أو: "المحدث" و"الحافظ" لمن كانت عنايته بعلم الحديث.

وقد يُطلق عليه من أوصاف الثناء على سعة معرفته واطلاعه فيسمى بـ " شيخ الإسلام " أو " العلَّامة " أو " الإمام " ونحو ذلك من الإطلاقات التي يُقصَد بها وصفُ مستحق هذا الإطلاق بالعلم والمعرفة، ولا يقصد بها بوجه من الوجوه مرتبةً كهنوتية ينالها بتدرجٍ معيَّنٍ في مراحل التدين والرهبانية.

بل حتى إِنَّ وصفَ الدرجة العلمية بإطلاق هذه الألقاب لم يأخذ اصطلاحا محددًا مقسَّما، ليُسَمَّى من بلغ من العلم إلى حد معين باسم يختلف عن حد آخر..وهكذا، إنما هي أوصاف تقديرية نسبية، لا تأخذ تقسيما محددا، ولا تدل على قدر مرسومٍ من العلم، بل تدل على الثناء العام أو التخصص المعين.

فليس هناك فروق دقيقة بين ألقاب " الإمام " و " العالم " و " الشيخ "، ولا يجوز لأحد أن يفهم إطلاقها في كتب العلم أو على ألسنة العلماء بما وقع في الملل الأخرى من بدعة " رجال الدين " أو " الإكليروس ".

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>