أخوف آية في القرآن العظيم
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة هذا الكلام، وما مدى صدقه، فقد ذكر بمنتديات كثيرة، واختلفنا بين مؤيد ومعارض، ولم نجد مصدرا لصحة هذا الكلام ... فالرجاء إفادتنا بأسرع وقت ممكن، وجزاكم الله كل خير. السؤال هو: أكثر آيات القرآن تخويفا للمؤمنين، أتعلمون ما هي أخوف آية في القرآن؟ أتعلمون أن أخوف آية في القرآن هي قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) الفرقان/٢٣، إنها حقا من أكثر آيات القرآن تخويفا للمؤمنين.. وتتحدث عن فئة من المسلمين تقوم بأعمال كجبال تهامة من حج، وصدقات، وقراءة قرآن، وأعمال بر كثيرة، وقيام ليل، ودعوة، وصيام، وغيرها من الأعمال.. وإذا بالله تعالى ينسف هذه الأعمال فيكون صاحبها من المفلسين! وذلك لأن عنصر الإخلاص كان ينقص تلك الأعمال، فليس لصاحب تلك الأعمال إلا التعب والسهر والجوع، ولا خلاص يوم القيامة من العذاب والفضيحة إلا بالإخلاص، ولا قبول للعمل إلا بالإخلاص. هذا ما يتم تناقله عبر المنتديات، وكثيرون يعارضون هذا الكلام، وأنه لا صحة له، ولا مصدر يصدقه، وآخرون يوافقونه. فما مدى صدقه، رجاء الإفادة، جزاكم الله كل خير.]ـ
[الْجَوَابُ]
أولا:
التعبد لله عز وجل مبني على الإخلاص والاتباع، فهو أساس كل العبادات، وهو مقصد جميع الأنبياء، وعليه مدار الثواب والعقاب يوم القيامة، فمن عمل صالحا يقصد به وجه الله تعالى، من غير التفات إلى حظوظ دنيوية عاجلة كان من الفائزين، أما من راقب الجاه والمال والسمعة كان عمله وبالا عليه يوم القيامة.
يقول ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (٦/١٠٣) :
" وقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) ، هذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم – شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي: إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) البقرة/٢٦٤ " انتهى مختصرا.
وقد اتفق أهل العلم على أن الرياء يحبط ثواب العمل المراءى به، لقوله عليه الصلاة والسلام: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) رواه مسلم (٢٩٨٥)
يقول النووي في "شرح مسلم" (١٨/١١٦) :
" والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به " انتهى.
فلا شك أن مثل هذا الوعيد مخوف للمسلم أشد التخويف، ودافع له نحو مراقبة الإخلاص لله في قلبه، وقطع كل أسباب المراءاة والتسميع، وإلا فقد خسر أعماله التي راءى بها ولو كانت كأمثال الجبال.
وللنظر في تفصيلات الفقهاء حول موضوع إحباط الثواب بالرياء ينظر "إحياء علوم الدين" للغزالي (٤/٣٨٤)
أما حديث ثوبان رضي الله عنه المشهور، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا.
قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.
قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا) ، فهذا رواه ابن ماجه في سننه (رقم/٤٢٤٥) ، والروياني في "المسند" (١/٤٢٥) ، والطبراني في "الأوسط" (٥/٤٦) و"الصغير" (١/٣٩٦) ، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (٣/٢٤٢) : " رواته ثقات " انتهى، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة": " إسناده صحيح " انتهى.
والذي يبدو من حال هؤلاء هو الجرأة على معاصي السر، حين يستخفون من الناس، مع إظهار الصلاح والاستقامة أمام الناس.
ثانيا:
أما الأعمال التي أخلص العبد فيها لله سبحانه، ولم يقصد بها غير وجهه عز وجل، فهذه يكتب الله له به الحسنات، ويثيبه عليها في الجنة، ولا يحبطها وقوع الرياء في أعمال أخرى، ولا ارتكابه المعاصي في أبواب أخرى، فهو سبحانه لا يضيع أجر المحسنين، ولا يظلم مؤمنا حسنة عملها، وقد قرر ذلك في قاعدة عامة في سورة الزلزلة فقال:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة/٧-٨
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – كما في "مجموع الفتاوى" (١٠/٣٢١) -:
" صاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته. وعند أهل السنة والجماعة يُتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه وإن كان عاصيا في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره " انتهى باختصار.
ثالثا:
في القرآن الكريم الكثير من آيات الترهيب التي تتضمن من المعاني الثقيلة العظيمة التي تحدث في قلوب المؤمنين من تقوى الله والخوف من عقابه ما يكون له أكبر الأثر في ارتقائهم مدارج السالكين، وفوزهم بأعلى درجات النعيم.
عن سفيان قال: " ما في القرآن آية أشد علي مِن (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) المائدة/٦٨. " انتهى.
وعن ابن سيرين: " لم يكن شيء عندهم أخوف من هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) البقرة/٨ " انتهى.
وعن أبي حنيفة: " أخوف آية في القرآن: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) آل عمران/١٣١ " انتهى.
وعن الشافعي قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) العصر/٢-٣.
وقيل إن أخوف آية في القرآن: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) آل عمران/٢٨، وقيل: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ) الرحمن/٣١، وقيل: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) التكوير/٢٦، وقيل: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) النساء/١٢٣، وقيل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون/١١٥، وقيل: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) البروج/١٢، وقيل: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية/٢١
يمكن مراجعة هذه الأقوال في "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (٢/٤٣٠) وفي "الحاوي" له أيضا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب