كيف يتخلص من العجب؟
[السُّؤَالُ]
ـ[كيف يتخلص الإنسان من العجب بطريقة عملية؟ فأحياناً عندما أفعل شيئاً - سواء طاعة، أو فعل خير - أشعر بشيء من العجب، وذلك يضايقني كثيراً، فكيف أتخلص من ذلك؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
نسأل الله أن يرزقنا جميعا الإخلاص في السر والعلن.
اعلم أخي السائل أن العجب آفة يعاني منها الكثير من الناس، وتكمن خطورتها في الانصراف عن الثناء على الله إلى الثناء على النفس، وهي تتعارض مع واقع الانكسار والتذلل المستحب في طاعة المولى عز وجل.
وقد قرر علماء السلوك والأخلاق أن سبب العجب في الحقيقة هو الجهل المحض أو الغفلة أو الذهول، فإذا صاحب ذلك إطراء الناس للشخص وكثرة ثنائهم عليه، مع ضعف مراقبة الله عز وجل وقلة الورع والخشية، اجتمعت على المرء هذه الآفة الشديدة فأهلكته إلا أن يتداركه الله برحمته.
قال ابن القيم رحمه الله: " جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها " انتهى.
"مدارج السالكين" (١/١٧٥) .
وللعلماء في بيان طرق التخلص من هذه الآفة كتابات عديدة، من أوسعها وأفضلها وأدقها ما كتبه العلامة ابن حزم الأندلسي رحمه الله، ونحن ننقله هنا بشيء من الاختصار الذي يحقق المقصود ولا يخل به إن شاء الله تعالى:
قال رحمه الله:
" من امتُحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أُعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه لأتم الناس نقصاً، وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً.
وأول ذلك أنه ضعيف العقل، جاهل، ولا عيب أشد من هذين؛ لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالَبَها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه.
واعلم يقيناً: أنه لا يسلم إنسي من نقص، حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط، وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة، فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضره في الدنيا ولا في الآخرة.
وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها، فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.
وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلاً، والواجب اجتنابه إلا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب، أو على سبيل تبكيت المعجَب فقط في وجهه، لا خلف ظهره.
ثم تقول للمعجَب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، ولا تُمَيِّل [أي: توازن وتقارن] بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها فتستسهل الرذائل وتكونَ مقلِّداً لأهل الشر، وقد ذم تقليد أهل الخير، فكيف تقليد أهل الشر! لكن ميِّلْ بين نفسك وبين من هو أفضل منك، فحينئذ يتلف عجبك، وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس، وفيهم بلا شك من هو خير منك، فإذا استخففت بهم بغير حق، استخفوا بك بحق؛ لأن الله تعالى يقول: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) .
فإن أعجبت بعقلك: ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، وفي أضاليل الأماني الطائفة بك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ.
وإن أعجبت بآرائك: فتفكر في سقطاتك، واحفظها ولا تنسها، وفي كل رأي قَدَّرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك وأصاب غيرك، وأخطأت أنت، فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابه، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم.
وإن أعجبت بعملك: فتفكر في معاصيك وفي تقصيرك وفي معاشك ووجوهه، فو الله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويُعَفِّي على حسناتك، فليطل همك حينذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك: فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وهبك إياها ربك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت.
ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف، وهو من أهل العلم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث، أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته، وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً، لم يعاوده ذلك الذكاء بعد.
وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له، فما عاودته إلا بعد أعوام.
واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على العلم يجِدّون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً، فليعلم ذو العلم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه، فصح أنه موهبة من الله تعالى، فأي مكان للعجب ها هنا! ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى، واستزادة من نعمه، واستعاذة من سلبها.
ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته ـ من أنواع العلم الذي تختص به، والذي أعجبت بنفاذك فيه ـ: أكثر مما تعلم من ذلك، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها، فهو أولى.
وتفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيراً، فلتهن نفسك عندك حينئذ.
وتفكر في إخلالك بعلمك، وأنك لا تعمل بما علمت منه، فعلمك عليك حجة حينئذ، ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً، واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر، فليسقط عجبك بالكلية.
ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها، كالشعر وما جرى مجراه، فانظر حينئذ إلى مَن عِلمُهُ أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة، فتهون نفسك عليك.
وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها، فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق؛ لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة، فقد أفسدتها بعجبك، ثم تفكر في زوالها عنك بالشيخوخة وأنك إن عشت فستصير من عدد العيال، وكالصبي ضعفاً.
على أني ما رأيت العجب في طائفة أقل منه في أهل الشجاعة، فاستدللت بذلك على نزاهة أنفسهم ورفعتها وعلوها.
وإن أعجبت بجاهك في دنياك: فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظرائك، ولعلهم أخساء وضعفاء سقاط، فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه، ولعلهم ممن يُستحيا من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وأخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شاركك فيها من ذكرت لك، وإن كنت مالك الأرض كلها، ولا مخالف عليك؟!!
واعلم أن عجبك بالمال حمق؛ لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا أن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط، والمال أيضاً غاد ورائح، وربما زال عنك، ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف، والثقة به غرور وضعف.
وإن أعجبت بحسنك ففكر فيما يولد عليك مما نستحي نحن من إثباته، وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن، وفيما ذكرنا كفاية.
وإن أعجبت بمدح إخوانك لك: ففكر في ذم أعدائك إياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب؛ فإن لم يكن لك عدو: فلا خير فيك، ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله.
فإن استحقرت عيوبك: ففكر فيها لو ظهرتْ إلى الناس، وتمثل إطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل، وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مُسكة من تمييز.
وإن أعجبت بنسبك: فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا؛ لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة، وانظر هل يدفع عنك جوعة، أو يستر لك عورة، أو ينفعك في آخرتك. وإن أعجبت بقوة جسمك: فتفكر في أن البغل والحمار والثور أقوى منك وأحمل للأثقال.
وإن أعجبت بخفتك: فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب، فمن العجب العجيب، إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير الناطق.
واعلم أن رياضة الأنفس أصعب من رياضة الأسد، لأن الأسد إذا سجنت في البيوت التي تتخذ لها الملوك، أمن شرها، والنفس وإن سجنت لم يؤمن شرها " انتهى باختصار.
"الأخلاق والسير وأثرها في مداواة النفوس" (ص/٢٩-٣٤) ، وانظر: "بريقة محمودية" (٢/٢٣٧)
وانظر جواب السؤال رقم: (١٢٢٠٥)
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب