الحكمة من الجهر في الصلوات الليلية والإسرار في الصلوات النهارية
[السُّؤَالُ]
ـ[ما هي الحكمة من الجهر في صلاة المغرب والعشاء؟
وما الحكمة من الجهر في ركعتين فقط من صلاة العشاء من أربع ركعات؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
المسلم مطالب باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، سواء علم الحكمة أم لم يعلمها، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب/٢١.
مع الجزم بأن الشريعة مبنية على الحكم العظيمة الباهرة، لكن هذه الحكمة قد نعلمها، وقد نجهلها، وقد نعلم بعضها ونجهل بعضها الآخر.
ولا حرج على الإنسان في السؤال عن الحكمة والبحث عنها؛ لما في معرفتها من زيادة العلم، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر.
ثانياً:
تلمس بعض العلماء الحكمة من الجهر بالقراءة في الصلاة الليلية، والإسرار في الصلوات النهارية، وحاصل ما ذكروه في ذلك:
أن الليل وقت الهدوء والخلوة وفراغ القلب، فشرع فيه الجهر إظهاراً للذة مناجاة العبد لربه، وحتى يتوافق على القراءة القلب واللسان والأذن.
وإلى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة:
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) المزمل/٦، ٧.
قال ابن كثير (٤/٤٣٥) :
" والغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة ولهذا قال تعالى: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش " انتهى.
وقال القرطبي (١٩/٤٠) :
" فالمعنى: أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان، لانقطاع الأصوات والحركات " انتهى.
وقال السعدي رحمه الله (ص ١٠٥٨) :
" (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا) أي أقرب إلى حصول مقصود القرآن، يتواطأ عليه القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره.
وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذه المقاصد، ولهذا قال: (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا) أي: تردداً في حوائجك ومعاشك يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام " انتهى.
قال في "تحفة المحتاج":
" بقي حكمة الجهر ما هي؟ ولعلها: أنها لما كان الليل محل الخلوة، ويطيب فيه السمر، شرع الجهر فيه إظهارا للذة مناجاة العبد لربه، وخص بالأوليين لنشاط المصلي فيهما، والنهار لما كان محل الشواغل والاختلاط بالناس، طلب فيه الإسرار، لعدم صلاحيته للتفرغ للمناجاة، وألحق الصبح بالصلاة الليلية لأن وقته ليس محلا للشواغل عادة كيوم الجمعة " انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (٢/٩١) :
" وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة ; فإن الليل مظنة هدوء الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع الهمم المشتتة بالنهار , فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن , والليل محل مواطأة القلب للسان، ومواطأة اللسان للأذن ; ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالستين إلى المائة , وكان الصَّدَّيق يقرأ فيها بالبقرة , وعمر بالنحل وهود وبني إسرائيل ويونس ونحوها من السور ; لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم , فإذا كان أول ما يقرع سمعه كلام الله الذي فيه الخير كله بحذافيره صادفه خاليا من الشواغل فتمكن فيه من غير مزاحم ; وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرية إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه , كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف ; فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود , وأنفع للجمع , وفيه من قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة " انتهى.
زادنا الله وإياك علما نافعا وعملا صالحا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب