للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مشكلة أبوين مع ابنتهم التي ترفض الزواج وتأخر بها العمر

[السُّؤَالُ]

ـ[نحن أسرة تتقي الله، ومشكلتي أن ابنتي الصغرى البالغة من العمر ٣٤ عاماً لم تتزوج حتى الآن، وهي إنسانة متميزة ذات جمال ومال وحسب ونسب، وناجحة في كل مجالات الحياة، وعلى خلق ودين وملتزمة، وتقوم بكثير من الأعمال الصالحة من مساعدة الغير وقيام الليل وحفظ القرآن وحضور مجالس علم ولذلك فقد تقدم لها أعداد لا حصر لها من العرسان من خيرة الشباب على مدى يزيد عن ١٠ سنوات وفي كل مرة تقابل الموضوع بفتور وليس بفرحة كما يفعل أقرانها، ثم تعمل استخارة وتخبرنا بعدها أن نفسها غير منشرحة لهذا الشخص وأنها تحس بالاختناق منه، وإنه ليس الشخص المناسب الذي ترغب فيه، وليس لها أي اعتراض موضوعي على معظمهم، ونفشل أنا ووالدها البالغ من العمر ٧٠ عاماً في إقناعها بكل الوسائل الممكنة إبتداءاً من التوسل والملاطفة إلى المشاجرة وإظهار عاقبة الأمور، وقد تم عرضها - بناءاً على رغبتها - على دكتورة أمراض نفسية التي أقرت أنها سليمة معافاة وليس بها شيء، مما جعلنا في حالة حزن وحسرة شديدة تلف أيامنا على مدى العشر سنوات وفي حيرة وحرج من أمرها مما جعلها مختارة تحلف على المصحف أن ليس هناك سبب تعلمه أو يشينها يمنعها من الزواج وإنها تصدقنا القول، ولأنني أكثر حساسية بهذا الموضوع فقد تأثرت نفسيّاً وصحيّاً وغضب قلبي عليها – والعياذ بالله – غضباً شديداً بحيث أنني لا أطيق النظر إليها أو التحدث معها، وحياتنا أصبحت جحيماً وبلغت ذروتها هذا العام بعد رفضها شابّاً كان حلم حياتنا أنا ووالدها وبنفس الأسلوب ولكل منا رأي سأعرضه على فضيلتكم لتحكم بيننا بالشرع، فأنا أرى أنها بعدم طاعتها لوالدها ولي أمرها وتسببها لنا في كل هذا الأذى وحرماننا من ثمرة جهدنا في تربيتها - وهي الفرحة بها - عقوق لنا لن يجدي معه كل ما تفعل من أعمال صالحة، وأن آفتها الكِبر بسبب تميزها والتعامل مع الموضوع باستغناء وعدم تقدير لنعمة الله عليها – فغيرها لا يجد هذه النعمة– وأعتبره بطراً للنعمة، ونصحتها أن تطرح موضوع الانشراح والقبول أولاً هذا جانباً وإنها لو توكلت على الله حق توكله وارتبطت بمن ارتضاه لها والدها فببركة التوكل وإعمال سنة الله في خلقه لإعمار الأرض بالتزاوج والتكاثر وببركة رضانا ودعائنا لها وتقوى الله في معاملتها زوجها مستقبلاً سيجعل الله بينهما المودة والرحمة والسكينة، بمعنى يأتي الانشراح والقبول الذي تسعى إليه، وهي ترى أنها تتبع السلوك الشرعي السليم من عمل الاستخارة ولكن الله لم يرزقها حتى الآن بمن ينشرح له صدرها، وأن هذا بلاؤها، وأن النصيب لم يأت بعد وعندما يأتي سيسهل كل شيء، وأنها غير عاقة لوالديها إنما هي تمارس حقها الشرعي في القبول أو الرفض، وأنها حرة أن تتزوج أو لا تتزوج فهذا شأنها وأنها سبق أن جربت الارتباط بخطوبة ٣ مرات – مرتان باختيارها ومرة باختيارنا – وفشلت، وهي التي فسخت هذه الخطب جميعاً. أرجو من فضيلتكم أن تجيب علينا أنا وهي بوضوح تام على هذه الأسئلة: ١. هل هي ابنة عاقة لوالديها أم لا؟ ٢. هل الزواج من الأمور الاختيارية ومن يتركه مع قدرة عليه لا إثم عليه؟ ٣. أينا رأيه هو الصواب الذي يرضاه الله، رأيي في أن تتوكل على الله وتقبل الزواج ممن يرضاه لها أبوها أم رأيها بأن تنتظر حتى يأتي من ينشرح له صدرها أولا؟ . نحن في انتظار حكم الله لنقول سمعنا وأطعنا،]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

الزواج من هدي النبي صلى الله وسلم وسنَّته، وقد أنكر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم على مَن أراد ترك النكاح وقال: " أما أنا فأتزوج النساء، مَن رغب عن سنَّتي فليس مني " – رواه البخاري (٤٧٧٦) ومسلم (١٤٠١) – والمقصود بـ " سنتي " أي: الهدي والطريقة، لا أنه مستحب؛ والصحيح أن الزواج تجري فيه الأحكام الخمسة، فقد يكون حراماً ومكروهاً ومستحبا وواجبا ومباحاً، ويصبح واجباً عند جمهور الفقهاء في حالة واحدة وهي إذا خاف الرجل أو المرأة من الزنا إذا لم يتزوجا، فهنا يجب على كل من ملك القدرة المالية منهما على النكاح أن يتزوج، أما إذا كان غير راغب في النكاح، وكان قادراً على حفظ نفسه – رجلا كان أو امرأة -: فلا يجب في حقه الزواج عند جمهور الفقهاء، بل هو مستحب في حقه، ويكون حراماً إذا علم الزوج أنه لن يؤدي حقوق زوجته ولن يستطيع إعفافها، وهكذا هو حكم الزوجة.

قال ابن قدامة:

والناس في النكاح على ثلاثة أضرب: منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح: فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه، وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح.

الثاني: من يستحب له، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور: فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة، وهو قول أصحاب الرأي، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم، وفعلهم ...

القسم الثالث: من لا شهوة له , إما لأنه لم يُخلق له شهوة كالعنين , أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه , ففيه وجهان ; أحدهما: يستحب له النكاح ; لعموم ما ذكرنا، والثاني: التخلي له أفضل ; لأنه لا يحصل مصالح النكاح , ويمنع زوجته من التحصين بغيره , ويضر با , ويحبسها على نفسه , ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها , ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه.

" المغني " (٧ / ٥، ٦) .

وبما سبق يتبين أن ابنتكِ إن تركت الزواج رغبةً عنه مع وجود الشهوة: ففعلها حرام لأنه رغبة عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنَّته، وإن كان تركها له لعدم رغبتها به، وتستطيع ضبط نفسها: فقد تركت مستحبّاً، وإن لم يكن لها شهوة ولا يمكنها أداء حقوق الزوج ولا إعفافه فزواجها دائر بين الكراهة والحرام، وهذا الحكم نذكره لكم ولها، لكم لتعلموا أنها قد يكون فعلها صحيحاً، ولها لنذكِّرها بأنها قد تكون مرتكبة لمحرَّم وهي لا تدري.

ثانياً:

هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل هدي، ولم تمنعه أعباء الدعوة التي يقوم بها من أن يتزوج بل إنه مات عن تسع نسوة، ولم يمنع العلماء علمهم من الزواج، وهكذا العبَّاد والمجاهدون، فلا يجوز لمسلم أن يوجِد تضادّاً بين النكاح وبين قيامه بالدعوة أو طلبه للعلم أو خروجه للجهاد، فالجيل الأول المزكَّى ومعهم نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا دعاة وعلماء ومجاهدين وعابدين، وهم – في الوقت نفسه – متزوجون وبأكثر من واحدة في الغالب.

والنكاح آية من آيات الله تعالى امتنَّ الله بها علينا فقال: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم / ٢١] ، وهو من هدي وسنن المرسَلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ... } [الرعد / ٣٨] ، وعزة الأمة الإسلامية وقوتها إنما تكون بتكثير نسلها المتربي على الخير والطاعة، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح من أجل أن تكثر هذه الأمة ويفاخر بها الأمم السابقة.

فندعو أختنا للتأمل في هذه الحِكَم والأحكام، فلعلَّها أن تترك الترفع عن هذا الهدي الكامل، وتكون لبِنَة رئيسة في بيتٍ مسلم، لتنجب ذرية طيبة صالحة.

ثالثاً:

إذا لم يكن ثمة سبب شرعي لأختنا في ترك الزواج: فإنه يجب عليها طاعة والديها فيه، ويكون عصيانهم عقوقاً، وإذا كان ثمة سبب شرعي: فلا يكون تركها للزواج عقوقاً، ويحرم على والديها إجبارها على النكاح، فرضاها وقبولها شرطٌ لصحة عقد الزواج.

قال الإمام أحمد رحمه الله ـ في رواية صالح وأبي داود ـ: " إذا كان له [يعني: للمرء] أبوان يأمرانه بالتزويج: أمرته أن يتزوج، أو كان شابا يخاف على نفسه العنت: أمرته أن يتزوج " انتهى.

الآداب الشرعية، لابن مفلح (١/٤٣٤) .

وقال المرداوي رحمه الله: " على القول باستحبابه: هل يجب بأمر الأبوين، أو بأمر أحدهما به؟ "

فذكر كلام الإمام أحمد السابق، ثم قال:

" فجعل أمر الأبوين له بذلك بمنزلة خوفه على نفسه العنت [يعني: أنه واجب في الحالين]

قال الإمام أحمد رحمه الله: والذي يحلف بالطلاق لا يتزوج أبدا، إن أمره أبوه: تزوج "

"الإنصاف في بيان الراجح من الخلاف" (٨/١٤) .

ثالثاً:

وندعو أختنا – كذلك – لأن تفكِّر في حال والدَيها، ولتعلم أنه بإدخالها السرور إلى قلبيْهما أنها تكون أدَّت طاعة من أعظم الطاعات لربها تعالى، ففي زواجها موافقة للفطرة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنن المرسلين، وفيه برٌّ لوالديها، وفيه إدخالٌ للسرور عليهما، فأي شيء تقوم به – الآن – من الطاعات يعدل هذا ويماثله؟! .

ولتتفكَّر – ولو قليلاً – بحال والديْها وما يعانيه كل واحدٍ منهما بسبب تأخير زواج ابنتهما، ولتعلم أن الناس الذين لا يتقون الله فيكم كثير، وفي تأخيرك للزواج أو امتناعك عنه فتح باب لإطلاق السفهاء ألسنتهم طعناً في أعراضكم واتهامكم بما أنتم بريئون منه.

يقول الدكتور محمد حسن غانم – محللا مشاعر الأم التي يتأخر زواج ابنتها -:

إنها تعيش هذه المشكلة بكامل طاقتها وعصبيتها وقلقها واكتئابها، لأنها كأم تشعر بعمق أحاسيس ابنتها.

وتعيش على حلم أن سعادتها القصوى أن ترى ابنتها في عش الزوجية، وترى أحفادها، ولذا فقد تنتاب الأم حالات من الاكتئاب، وقد تلجأ إلى السحرة والدجالين ظنا منها أن ابنتها " معمول لها عمل بوقف الحال "، وقد تلجأ إلى الدلالات في الأماكن الشعبية وعرض مشكلة ابنتها عليهن، ووعدهن بمكافأة سخية إذا أحضرن لابنتها عريس المستقبل، وعلى العكس من ذلك قد يكون إيمان الأم قويّاً بحيث تقول كلاماً تكون سببا في التخفيف عن ابنتها وحثها على الرضا بقضاء الله.

انتهى

ويقول الدكتور رامز طه:

إن الفتاة التي ترفض الزواج من كل رجل يتقدم لها تجعل نفسها محلا لإثارة الأقاويل والشائعات التي تسيء إلى سمعتها، ومع الوقت لا تجد من يطرق بابها، والشيء نفسه بالنسبة إلى الرجل حتى لو كان ذا مركز مرموق ...

انتهى

ولتنتبه أختنا الفاضلة إلى ما يترتب على تأخير الزواج من مضاعفات خطيرة في جسمها، ومنه ضعف الرحم وعدم القدرة على الإنجاب.

قال الدكتور محمد الرواشدة - أستاذ العلاج الطبيعي -:

" إن الزواج المتأخر يترافق معه عدة مشكلات متعددة في الولادة وصحة الجنين "، وقال: " إن بعض الدراسات أكدت أن الحمل المتأخر بعد سن الأربعين يؤدي إلى ولادات مشوهة، أما الإنجاب بعد سن الـ ٣٥ يؤدي إلى طفل منغولي لكل ٢٦٠ ولادة، فيما تزداد النسبة بعد هذا العمر ".

وقد وجِّه سؤال للدكتور فلاح الخطيب - استشاري ورئيس قسم علاج الأورام - عن أهم العوامل والأسباب التي تساهم في حدوث سرطان الثدي، فذكر عدة عوامل ومنها: احتمالات الإصابة به عند المرأة التي تحمل بالطفل الأول لها بعد سن الثلاثين.

رابعاً:

وما قالتْه الأم من عدم قبول الله تعالى لأعمال ابنتها إذا هي أصرَّت على فعلها: قول غير صحيح، ولا تحبط الأعمال كلها إلا بالشرك والردَّة، ولا يجوز أن يكون فعل ابنتكم سبباً للقسوة عليها والغلظة في التعامل معها، ويجب عليكم التلطف في العبارة والمعاملة، لعلَّ الله تعالى أن يهديها ويوفقها.

كما ننصح أختنا الفاضلة أن تتواضع لربها تعالى، ولا يجوز لها التكبر على خلق الله تعالى، ويجب عليها شكر نعمة الله عليها، ولا يكون الشكر بالتعالي على الناس واحتقارهم، ولتعلم أن مِن الناس مَن يكون قليل العلم لكنه عالي الأخلاق قوي الدين، فلا تغتر بنفسها على غيرها ولْتتواضع لربها ليرفع منزلتها في الدنيا والآخرة، ولا يجوز لها أن ترفض صاحب الخلق والدين، ولا نظن أن كل من جاء لخطبتها يستحق الرفض شرعاً، فلتنتبه لهذا ولتسعَ في تغيير ما هي عليها للأصلح والأفضل والأعلى والأكمل.

ولتعلم الأخت الفاضلة أن انشراح الصدر بعد الاستخارة ليس هو العلامة الوحيدة على رد الزوج، وعدم القبول به، بل هو من العلامات، فنرجو مراجعة إجابة السؤال رقم (٥٨٨٢) .

ونحب أن نذكرك ـ أختنا الكريمة ـ أن ما جاء في جوابنا، هو بحسب ما أداه إليه اجتهادنا، ومبلغ علمنا، لا أن كل رأي نراه، أو حكم نحكم به هو حكم الله، إلا أن يكون فيما نقوله أو نراه نص بيِّن من كتاب الله أو سنة نبيه، صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: ( ... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا!!) رواه مسلم (١٧٣١) .

قال النووي رحمه الله: " هذا النهي على التنزيه والاحتياط ".

وقال ابن القيم رحمه الله: " قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت ح لم أحل كذا، ولم أحرم كذا.

فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرمه الله، لمجرد التقليد أو بالتأويل " إعلام الموقعين (١/٣٩) .

ونسأل الله تعالى أن يشرح صدرك للحق والصواب، وأن يهديك لما يحب ويرضى، وأن يرزقك زوجاً صالحاً وذرية طيبة، وأن يؤلف بين قلوبكم جميعاً.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>