حكم المكرَهة على الزنى، ومتى يعد فعلها إكراهاً؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أتساءل كيف لامرأة تولَد مسلمة أن تُجبر على عمل كداعرة، فهناك حالات كثيرة في "إندونيسيا" أجبرت الفتيات صغيرات السن اللاتي بلا مأوى على العمل كداعرات، فهل سيكون مصير فتاة كهذه أن تدخل النار؟ فإن ترفض الفتاة هذا العمل يكون مصيرها القتل، فهل يقع إثمها عليها، أم يقع على والدها؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن هذا مما يؤلم القلب، بل ويدميه، ونسأل الله تعالى أن يخلص أولئك من براثن أهل الشر، والسوء.
ثانياً:
أول من تقع المسؤولية عليه هو الحاكم لتلك البلاد، ثم المسؤولون عن محاربة الشر والفساد وأهله، الذين يستطيعون القضاء على هؤلاء، ثم أهل الحل والعقد والكبراء، ممن يعلمون هذا الأمر، ويسكتون عنه.
والمسؤولية تقع أيضاً على والديهم ممن رضي لأولاده بالعمل في هذا المجال، أو فرَّط في تربية أولاده حتى وصلوا إلى هذه الحال.
ومن أعظم أسباب ضياع الأولاد: تقصير الوالدين في حق أولادهم بتضييعهم , وعدم القيام بواجب المسؤولية نحوهم.
قال ابن القيم رحمه الله:
"فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى: فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبَل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه؛ فأضاعوهم صغاراً" انتهى.
"تحفة المودود" (ص ٢٢٩) .
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم مسؤولية أولئك جميعاً في سياق واحد في هذا الحديث:
عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) رواه البخاري (٨٥٣) ومسلم (١٨٢٩) .
ثالثاً:
من قواعد الشريعة المتفق عليها بين أهل العلم: التجاوز عن المكرَه إكراهاً ملجئاً، لا يستطيع التخلص منه، بسبب ضعفه، وقلة حيلته، وبسبب جبروت المكرِه وطغيانه، حتى لو كان الإكراه في الكفر، فإن الله تعالى قد تجاوز عنه، ولا يكون المكرَه آثماً بحال، كما قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/ ١٠٦.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه (٢٠٤٥) ، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".
وقد نصَّ الله تعالى على حرمة الإكراه على " البغاء "، وتوعَّد من أكره النساء عليه، وأخبر عن غفرانه لذنب من أكرهت على ذلك من النساء، بل وللمكرِه أيضاً إن هو تاب، وأناب.
قال الله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/٣٣.
وسبب نزول هذه الآية: هو ما كان يفعله " عبد الله بن أبيّ بن سلول " – زعيم المنافقين – من إكراه إماءٍ عنده على الزنى.
فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ ابْنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا " مُسَيْكَةُ "، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا " أُمَيْمَةُ " فَكَانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ) إِلَى قَوْلِهِ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) رواه مسلم (٣٠٢٩) .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله:
"قال تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ) أي: إماءكم، (عَلَى الْبِغَاءِ) أي: أن تكون زانية، (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) لأنه لا يُتصور إكراهها إلا بهذه الحال، وأما إذا لم ترد تحصناً: فإنها تكون بغيّاً، يجب على سيدها منعها من ذلك، وإنما هذا نهي لما كانوا يستعملونه في الجاهلية، من كون السيد يُجبر أمَته على البغاء؛ ليأخذ منها أجرة ذلك، ولهذا قال: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيراً منكم، وأعفَّ عن الزنا، وأنتم تفعلون بهن ذلك؛ لأجل عرَض الحياة، متاع قليل، يعرض، ثم يزول.
فكسبكم النزاهة، والنظافة، والمروءة - بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها -: أفضل من كسبكم العرَض القليل، الذي يكسبكم الرذالة، والخسَّة.
ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة، فقال: (وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ َفُورٌ رَحِيمٌ) فليتب إلى الله، وليقلع عما صدر منه مما يغضبه، فإذا فعل ذلك: غَفر الله ذنوبه، ورحمه" انتهى.
"تفسير السعدي" (ص ٥٦٧) .
وقال الطبري رحمه الله:
" (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ) يقول: ومن يكره فتياته على البغاء، فإن الله من بعد إكراهه إياهنّ على ذلك، لهنَّ (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ووزر ما كان من ذلك عليهم، دونهن" انتهى.
"تفسير الطبري" (١٩/١٧٤) .
والآية تشمل المعنيين، فهو تعالى غفور رحيم للمكرَهات على الزنى، وهو غفور رحيم لمن تاب ممن أكرههنَّ على فعل الفاحشة.
وقد فصَّل العلماء في حد الإكراه الذي يُعذر فيه الإنسان.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
"وهو نوعان: أحدهما من لا اختيار له , ولا قدرة له على الامتناع، كمن حُمل كرها , وأُدخل إلى مكان حلَف على الامتناع من دخوله، أو حُمل كرهاً، وضُرب به غيره حتى مات ذلك الغير , ولا قدرة له على الامتناع، أو أضجعت، ثم زني بها، من غير قدرة لها على الامتناع، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق.
والنوع الثاني: من أكره بضرب أو غيره حتى فعل هذا الفعل ... فإن أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة، ففي إباحته قولان: أحدها: يباح له ذلك، استدلالاً بقول الله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ... ) ... وذكر الحديث المتقدم في نزولها في عبد الله بن أبي، ثم قال: وهذا قول الجمهور كالشافعي وأبي حنيفة وهو المشهور عن أحمد، وعن عمر بن الخطاب ما يدل عليه" انتهى باختصار.
" جامع العلوم والحكم " (ص ٣٧٦) .
فإذا كان الإكراه وصل إلى حدِّ القتل – كما جاء في السؤال -: فلا إثم عليها، ولا حد.
وكذلك لو كان الإكراه بالمنع من الطعام والشراب، حتى يُخاف عليها من الهلاك: كان هذا عذراً أيضاً، ولا إثم عليها.
فعَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي قَالَ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِامْرَأَةٍ جَهَدَهَا الْعَطَشُ، فَمَرَّتْ عَلَى رَاعٍ، فَاسْتَسْقَتْ، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إِلَاّ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، فَشَاوَرَ النَّاسَ فِي رَجْمِهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ، أَرَى أَنْ تُخَلِّىَ سَبِيلَهَا، فَفَعَلَ. رواه البيهقي في " سننه " (٨/ ٢٣٦) ، وقوَّى إسنادَه الألباني في "إرواء الغليل" (٧/٣٤١) .
قال ابن القيم رحمه الله:
"والعمل على هذا، لو اضطرت المرأة إلى طعام، أو شراب، عند رجل، فمنعها إلا بنفسها، وخافت الهلاك، فمكَّنته من نفسها: فلا حدَّ عليها.
فإن قيل: فهل يجوز لها في هذه الحال أن تمكِّن من نفسها، أم يجب عليها أن تصبر، ولو ماتت؟ .
قيل: هذه حكمها حكم المكرَهة على الزنا، التي يقال لها: إن مكنتِ من نفسك وإلا قتلتُك، والمكرهة لا حدَّ عليها , ولها أن تفتدي من القتل بذلك , ولو صبرت: لكان أفضل لها , ولا يجب عليها أن تمكن من نفسها، كما لا يجب على المكره على الكفر أن يتلفظ به , وإن صبر حتى قُتل: لم يكن آثما، فالمكرهة على الفاحشة أولى" انتهى.
"الطرق الحُكمية" (ص ٨٠) .
وينبغي أن يُعلم: أن من شروط الإكراه أن يكون عاجزاً عن دفع المكرِه عن نفسه، أو الهرب منه، فإن أمكنها الهرب وجب عليها ذلك ولا تكون مكرهة، أو أمكنها أن تستعين بالشرطة أو المسؤولين ـ إن كانوا سيحمونها ـ فليست مكرهة.
وينظر تفصيل شروط الإكراه في جواب السؤال رقم: (٧٠٥٥٨)
ونسأل الله تعالى أن يحفظ أعراض المسلمين، وأن يردهم إليه ردّاً جميلاً.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب