للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المقصود بجملة " اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان "

[السُّؤَالُ]

ـ[هل هناك ما يعرف بـ " اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان " , فهل هناك ما يثبت ذلك من الكتاب والسنَّة النبوية؟ . أفيدونا، أفادكم الله , وجزاكم الله خيراً.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

مسألة " اختلاف – أو تغيُّر - الفتوى باختلاف الزمان والمكان ": لنا معها وقفات:

١. يجب أن يُعلم أن الأحكام الشرعية المبنية على الكتاب والسنَّة: غير قابلة للتغيير، مهما اختلف الزمان، والمكان، فتحريم الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين، وما يشبه ذلك من الأحكام: لن يكون حلالاً في زمان، أو في مكان؛ لثبوت تلك الأحكام الشرعية بنصوص الوحي، ولاكتمال التشريع بها.

٢. اتخذ بعض أهل الأهواء من تلك الجملة مطية لهم للعبث بالأحكام الشرعية الثابتة بنصوص الوحي المطهَّر، ولتمييع الدين من خلال تطبيقها على أحكام قد أجمع أهل العلم على حكمها منذ الصدر الأول، ولا يسلم لهم الاستدلال بها، فهي لا تخدم أغراضهم، وإنما نص الجملة في " الفتوى "، لا في " الأحكام الشرعية "، وبينهما فرق كبير، فالأول في مسائل الاجتهاد، وما كان بحسب الواقع، فاختلاف الواقع والزمان له تأثير في الفتوى باحتمال تغيرها.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:

وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث؛ فإنه ما من قضية، كائنة ما كانت، إلا وحكمها في كتاب الله تعالى، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصّاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علِم ذلك مَن علمهُ، وجهله من جهله، وليس معنى ما ذكره العلماء من " تغير الفتوى بتغير الأحوال ": ما ظنه من قَلَّ نصيبهم - أو عُدم - من معرفة مدارك الأحكام وعِلَلها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إراداتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها، مهما أمكنهم، فيحرفون لذلك الكلِم عن مواضعه، وحينئذ معنى " تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان ": مراد العلماء منه: ما كان مستصْحَبة فيه الأصول الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

" فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم " (١٢ / ٢٨٨، ٢٨٩) .

٣. القول بتغير الأحكام الشرعية الثابتة بالوحي يعني تجويز تحريف الدِّين، وتبديل أحكامه، والقول بذلك يعني تجويز النسخ بعد كمال التشريع، ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وليُعلم أن الإجماع نفسه لا يمكن أن ينسخ حكماً ثابتاً في الشرع إلا أن يكون مستنده النص، فإن لم يكن كذلك – وهو غير واقع في حقيقة الأمر -: كان القول به تجويزا لتبديل الشريعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:

وكنا نتأول كلام هؤلاء على أن مرادهم أن " الإجماع " يدل على نص ناسخ، فوجدنا من ذُكر عنهم: أنهم يجعلون الإجماع نفسه ناسخاً! فإن كانوا أرادوا ذلك: فهذا قول يجوِّز تبديل المسلمين دينَهم بعد نبيِّهم، كما تقول النصارى مِن: أن المسيح سوَّغ لعلمائهم أن يحرِّموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين، ولا كان الصحابة يسوِّغون ذلك لأنفسهم، ومَن اعتقد في الصحابة أنهم كانوا يستحلون ذلك: فإنه يستتاب، كما يستتاب أمثاله، ولكن يجوز أن يجتهد الحاكم، والمفتي، فيصيب، فيكون له أجران، ويخطئ، فيكون له أجر واحد.

" مجموع الفتاوى " (٣٣ / ٩٤) .

وهذا من أعظم خصائص الشريعة وأحكامها القطعية.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله في بيان ميزات أحكام التشريع القطعية -:

الثبوت من غير زوال، فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً: فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً: فهو أبداً شرط، وما كان واجباً: فهو واجب أبداً، أو مندوباً: فمندوب، وهكذا جميع الأحكام، فلا زوال لها، ولا تبدل، ولو فُرض بقاء التكليف إلى غير نهاية: لكانت أحكامها كذلك.

" الموافقات " (١ / ١٠٩، ١١٠) .

٤. ضابط فهم هذه العبارة في أمرين:

أ. التغير في الفتوى، لا في الحكم الشرعي الثابت بدليله.

ب. التغير سببه اختلاف الزمان، والمكان، والعادات، من بلد لآخر.

وقد جمعهما الإمام ابن القيم رحمه الله في قوله:

" فصل، في تغير الفتوى، واختلافها، بحسب تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيات، والعوائد "، والعوائد: جمع عادة، وهو فصل نفيس، ذكر فيه – رحمه الله – أمثلة كثيرة، فلتنظر في " إعلام الموقعين " (٣ / ٣ فما بعدها) .

ونضرب على ذلك أمثلة، منها:

١. اللُّقَطة، فإنها تختلف من بلد لآخر، ومن زمان لآخر، في تحديد قيمة ما يجوز التقاطه، وتملكه من غير تعريف، فيختلف الأمر في البلد نفسه، فالمدينة غير القرية، ويختلف باختلاف البلدان، والأزمنة.

٢. زكاة الفطر، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرعها طعاماً، بمقدار صاع، وقد نص الحديث على " الشعير "، و " التمر "، و " الإقط "، وهي الآن ليست أطعمة في كثير من البلدان، فالشعير صار طعاماً للبهائم، والتمر صار من الكماليات، والإقط لا يكاد يأكله إلا القليل، وعليه: فيفتي العلماء في كل بلد بحسب طعامهم الدارج عندهم، فبعضهم يفتي بإخراج الأرز، وآخر يفتي بإخراجها ذرة، وهكذا.

فالحكم الشرعي ثابت ولا شك، وهو وجوب زكاة الفطر، وثابت من حيث المقدار، ويبقى الاختلاف والتغير في نوع الطعام المُخرَج.

والأمثلة كثيرة جدّاً، في الطلاق، والنكاح، والأيمان، وغيرها من أبواب الشرع.

وانظر مثالاً صالحاً لهذا في جوابنا على السؤال رقم (١٢٥٨٥٣) .

قال القرافي رحمه الله:

فمهما تجدد في العُرف: اعتبره، ومهما سقط: أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك: لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، ودون المقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح.

والجمود على المنقولات أبداً: ضلال في الدِّين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق، والعتاق، وجميع الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية فيفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحا فتستغني عن النية.

" الفروق " (١ / ٣٢١) .

وقد أثنى ابن القيم رحمه الله على هذا الفقه الدقيق فقال – بعد أن نقل ما سبق -:

وهذا محض الفقه، ومَن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم، وعوائدهم، وأزمنتهم، وأحوالهم، وقرائن أحوالهم: فقد ضلَّ، وأضل، وكانت جنايته على الدِّين أعظم من جناية مَن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم، وعوائدهم، وأزمنتهم، وطبائعهم، بما في كتابٍ من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل: أضر ما يكونان على أديان الناس، وأبدانهم، والله المستعان.

" إعلام الموقعين " (٣ / ٧٨) .

ولينظر جواب السؤال رقم: (٣٩٢٨٦) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>