نصراني يسأل عن التوبة
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا مسيحي وأريد أن أسأل:
إذا قرر الرجل أن يتوب بعد حياة مليئة بالمعاصي والذنوب وعاهد الرب على التوبة، أعلم أن الإسلام يقول بأنه سيغفر له وسؤالي ما يلي:
ماذا حصل للذنوب التي فعلها فقد عصى الله ولا بد أن يتحمل شخص ما عقوبة هذه الذنوب فمن هو ما دام الرب سيغفر له كونه مؤمنا؟
وكما رأينا في قصة آدم فقد كان هناك نوع من العقاب لذنبه.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..
بدايةً نشكر السائل على سؤاله.. ونسأل الله أن يمنَّ عليه بالهداية..
أيها السائل: لقد خلقنا الله تعالى لغاية عظيمة وهي عبادته وحده لا شريك له، قال تعالى:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} هذه هي الغاية.. عبادة الله وحده.
إذاً لم يخلقنا الله لنأكل ونشرب.. أو نلهو ونعلب.. أو نسعى وننصب.. بل خلقنا لنعبده ولا نكفره.. ونذكره ولا ننساه..
هذه هي الغاية.. وما أجملها من غاية.. يوم يعيش الإنسان لعبادة ربه ومولاه.. وخدمة دينه وإقامة أمره.. فهو بجسمه على الأرض وقلبه مع الله والدار الآخرة.. هنا يدرك حقيقة هذه الدنيا.. ومدى حقارتها ودناءتها.. وأن ما بقي له فيها لا يستحق أن يضيعه في لذة عابرة وشهوة فانية.. فاللهم اهدنا بهداك.
ولما كانت العبادة تفتقر إلى إيضاحٍ وإرشاد.. أرسل الله رسله {مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} ... فمن أسلم فقد اهتدى.. ومن أعرض فقد خاب وخسر..
قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} سورة الأنعام / ١٠٤.
فإذا أسلم العبد فقد اختار لنفسه السعادة {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} سورة الجن / ١٤.
ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والنسيان، وكان وقوعه في الذنب وارداً، شرع الله لعباده التوبة وفتح بابها إلى قيام الساعة، ودعا عباده إلى التوبة النصوح فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار..} التحريم / ٨ وقال: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} النور / ٣١.
انظر السؤال ١٤٢٨٩
واعلم بأن الذنوب على قسمين:
الأول: ما كان في حق الله تعالى..
الثاني: ما كان في حق المخلوق..
أما الأول:
وهو ماكان في حق الله.. كالزنا وشرب الخمر، وترك الواجبات من صلاة وزكاة ونحو ذلك، فما كان من هذه الذنوب له عقوبة في الشريعة كالزنا وشرب الخمر، فأقيم الحد على فاعلها كان ذلك كفارة وتطهيرا له. ومن لم يقم عليه الحد، لكنه تاب إلى الله تعالى، فإن الله يتوب عليه، ويبدل سيئاته حسنات.
ومن لقي الله بهذه الذنوب دون توبة أو حد أقيم عليه، فهو تحت مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
روى البخاري (١٨) ومسلم (١٧٠٩) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك.
وفي رواية للبخاري (٦٤١٦) : " ومن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور ".
قال الحافظ في الفتح (١/٦٨) : (ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود وهو قول الجمهور ... )
وروى أحمد (١٣٦٥) عن على رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أذنب في الدنيا ذنبا فعوقب به فالله أعدل من أن يُثَنِّي عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستر الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه "
والحديث حسنه الأرناؤوط في تحقيق المسند. وحسن الحافظ نحوه من رواية الطبراني.
وقال تعالى:) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان / ٦٨- ٧٠.
وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) النساء / ١١٦، وهذه الآية في حق من لم يت، فهو في مشيئة الله، إلا أن يقع في الشرك، فالشرك لا يغفر.
وأما القسم الثاني من الذنوب:
ما كان متعلقا بحقوق العباد كالاعتداء على أموالهم سرقة أو غصبا ونحو ذلك، أو الوقوع في أعراضهم غيبا ونميمة، أو التعدي على أبدانهم بالضرب ونحوه، فهذا النوع من الذنوب يشترط في التوبة منه رد الحق إلى أهله، أو مسامحتهم فيه.
ومن لم يفعل ذلك بقي عليه تبعة ذنبه إلى يوم القيامة، ليؤخذ منه بقدر مظلمته، من حسناته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" رواه البخاري (٢٣١٧) .
ومن هذا يُعلم أن القول بأن المذنب لابد أن يعاقب في الدنيا،، قول لا يدل عليه دليل، لكن من عوقب فهو كفارة له، ومن لم يعاقب، ثم تاب من ذنبه، فإن الله يتوب عليه.
وأعظم من هذا القول بطلانا قول من يقول: إن عقوبة الذنب قد يتحملها غير المذنب، كما يقوله بعض الجهلة في حق آدم عليه السلام، ويزعمون أن ذريته – بما فيهم الأنبياء - حملت خطيئته وذنبه حتى أنزل الله ابنه الوحيد ليصلب ويقتل ويرفع عن العالم إثم الخطيئة!! وهذا من الكذب والافتراء على الله وعلى أنبيائه، ومن الظلم الذي تنزه عنه الشرائع؛ لأن الله لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره قال تعالى: {ولاتزر وازرة وزر أخرى} فاطر / ١٨، وإن الله تعالى أرحم وأعدل من أن يعاقب الذرية على خطأ أبيهم، مع أنه تاب منه وقبل الله توبته.
قال الله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة / ٣٦، ٣٧ وقال سبحانه: (فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) طه / ١٢١، ١٢٢.
فاجتمع في حق آدم عليه السلام أمران: أنه عوقب بذنبه، وأنه تاب منه فقبل الله تعالى توبته، واصطفاه وأكرمه.
والحاصل أن من عاش حياة مليئة بالمعاصي والذنوب، فما عليه إلا أن يرجع إلى ربه الرحيم الكريم فيستغفر ويتوب، ليتوب الله عليه، كما وعد بذلك سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر / ٥٣ وهذا من التخفيف الذي جعله الله في هذه الشريعة السمحة، وقد كُتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم لتحصل توبتهم، ثم رفع الله الآصار والأغلال عن هذه الأمة المرحومة..
ختاماً نسأل الله تعالى أن يوفق السائل ويهديه ويشرح صدره للإسلام ليكون فردا من أفراد هذه الأمة المسلمة التي رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبينا ...
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب