للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

كيف روى أبو هريرة رضي الله عنه كل هذه الأحاديث ومدة صحبته ثلاث سنوات فقط؟

[السُّؤَالُ]

ـ[إحدى الأخوات المسلمات سألتني سؤالاً فلم أستطع أن أجيبها، قالت: طالما أن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث سنوات فقط، فكيف روى جميع هذه الأحاديث؟ أرجو التفصيل، وتدعيم الإجابة بالأدلة، حتى أتمكن من الشرح لها وتفهيمها.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

ليس هذا محل إشكال على الإطلاق، وإذا قمنا بعملية حسابية سريعة يتبين لنا أن هذا الإشكال لا حقيقة له.

وبيان ذلك: أن ثلاث سنوات من صحبة أبي هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم تعني أكثر من (١٠٥٠) يوماً.

وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، يصاحبه أينما حل وارتحل، ويقضي معه معظم يومه، كما أخبر هو عن نفسه رضي الله عنه، وأقر له الصحابة بذلك، فكم حديثاً نتوقع أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم؟

لا نريد أن نبالغ في العدد المفترض كي يتقبل القارئ الحجة، بل نفترض عدداً يقبله كل منصف يريد معرفة الحق لاتباعه، ولتكن خمسة أحاديث في اليوم فقط، ونعني بالأحاديث هنا خمسة مواقف، فالحديث قد يكون قولياً، وقد يكون فعلياً، وقد يكون إقرارا من النبي صلى الله عليه وسلم لفعل أو قول فعل أمامه أو بلغه، وقد يكون الحديث وصفا للنبي صلى الله عليه وسلم.

فلو نقل أبو هريرة رضي الله عنه لنا فعلاً فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو حدثاً معيناً - ولو كيفية الخروج للصلاة - فهذا يعد حديثا في عرف المحدثين.

فلو فرضنا أن أبا هريرة رضي الله عنه سيسمع عند كل صلاة من الصلوات الخمس كلمة من النبي صلى الله عليه وسلم، أو يشاهد موقفاً معيناً، فستكون حصيلة العلم الذي يجمعه أبو هريرة رضي الله عنه في اليوم الواحد خمسة أحاديث فقط.

ولا نظن أن أحداً يزعم أن هذا عدد كبير لحال أي صديق مع صديقه، فكيف بحال أبي هريرة رضي الله عنه المتفرغ للعلم، وهو يصاحب أعظم الرسل، وسيد البشر، محمداً صلى الله عليه وسلم؟

وعليه؛ ففي آخر صحبة أبي هريرة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ستكون حصيلة الأحاديث أكثر من خمسة آلاف حديث.

وهكذا هي فعلا الأحاديث التي تروى عن أبي هريرة في كتب السنة، نحو (٥٣٧٤) بحسب عددها في " مسند بقي بن مخلد " أضخم موسوعة حديثية مؤلفة، نقلاً عن الدكتور أكرم العمري في كتابه " بقي بن مخلد ومقدمة مسنده " (ص/١٩) .

فأين هي المبالغة المنسوبة لأبي هريرة رضي الله عنه في روايته للأحاديث؟

نظن أن أي منصف يتأمل عدد مرويات أبي هريرة رضي الله عنه مع مدة صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم يستنتج أنه لا صحة لهذه الزوبعة التي يثيرها البعض على مرويات أبي هريرة رضي الله عنه.

فكيف إذا علم القارئ الكريم أن الخمسة آلاف حديث المروية لأبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة تشمل الصحيح والضعيف والموضوع؟ يعني أن بعض هذه الأحاديث التي تُنسب لأبي هريرة رضي الله عنه لم تصح عنه من الأصل.

وكيف لو علم القارئ الكريم أيضاً أن الخمسة آلاف حديثاً المروية لأبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة تشمل المكرر الذي جاء بمتن ونص واحد ولكن تعددت أسانيده وطرقه؟ فبعض الأحاديث تروى من عشرة طرق ونصها واحد، فهذه يعدها العلماء عشرة أحاديث وليست حديثا واحداً.

وكيف لو علم القارئ الكريم أيضاً: أن الخمسة آلاف حديثاً المروية لأبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة لم يأخذها كلها من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل أخذ كثيراً منها عن إخوانه السابقين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم؟

ثم كيف لو علم القارئ الكريم أيضاً أن أبا هريرة رضي الله عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنوات، وليس ثلاثة فقط.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في مدة صحبة أبي هريرة رضي الله عنه:

" قدم في خيبر سنة سبع، وكانت خيبر في صفر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فتكون المدة أربع سنين وزيادة، وبذلك جزم حميد بن عبد الرحمن الحميري" انتهى.

" فتح الباري " (٦/٦٠٨) .

وأما إخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن نفسه أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، كما وقع في "صحيح البخاري" (حديث رقم/٣٥٩١) أنه قال: (صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ سِنِينَ، لَمْ أَكُنْ فِى سِنِىَّ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِىَ الْحَدِيثَ مِنِّى فِيهِنَّ) .

فهذا محمول على تقديره رضي الله عنه للمدة التي لازم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة شديدة، واستثنى الأيام التي ابتعد فيها حين ذهب إلى البحرين، أو في بداية إسلامه، أو في أيام الغزوات، حيث قد لا يتيسر له ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:

" فكأن أبا هريرة اعتبر المدة التي لازم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الملازمة الشديدة، وذلك بعد قدومهم من خيبر، أو لم يعتبر الأوقات التي وقع فيها سفر النبي صلى الله عليه وسلم من غزوه وحجه وعُمَرِه؛ لأن ملازمته له فيها لم تكن كملازمته له في المدينة، أو المدة المذكورة بقيد الصفة التي ذكرها من الحرص، وما عداها لم يكن وقع له فيها الحرص المذكور، أو وقع له لكن كان حرصه فيها أقوى، والله أعلم " انتهى.

" فتح الباري " (٦/٦٠٨) .

فإذا تبين أن صحبة أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنين، وأسقطنا من عدد الأحاديث المروية عن أبي هريرة الأحاديث المكررة والضعيفة، فأي محل يبقى لدعوى مبالغة أبي هريرة رضي الله عنه في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

ثانياً:

ثم ننقل هنا بعض ما كتبه علماؤنا رحمهم الله في توضيح أسباب كثرة روايات أبي هريرة رضي الله عنه في كتب السنة عن غيره من الصحابة رض الله عنهم.

قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله:

"لكثرة حديث أبي هريرة رضي الله عنه أسباب، استخرجناها من عدة روايات:

أحدها: أنه قصد حفظ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وضبط أحواله؛ لأجل أن يستفيد منها، ويفيد الناس، ولأجل هذا كان يلازمه ويسأله، وكان أكثر الصحابة لا يجترئون على سؤاله إلا عند الضرورة، وقد ثبت أنهم كانوا يُسَرُّون إذا جاء بعض الأعراب من البدو وأسلموا؛ لأنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الدلائل على هذا السبب ما رواه عنه البخاري قال: قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث) .

وما رواه أحمد عن أُبيّ بن كعب: أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره.

ثانيها: أنه كان يلازم النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبعه حتى في زيارته لنسائه وأصحابه ليستفيد منه، ولو في أثناء الطريق، فكانت السنين القليلة من صحبته له كالسنين الكثيرة من صحبة كثير من الصحابة الذين لم يكونوا يَرَوْنه صلى الله عليه وسلم إلا في وقت الصلاة، أو الاجتماع لمصلحة يدعوهم إليها، أو حاجة يفزعون إليه فيها، وقد صرح بذلك لمروان.

وأخرج البغويّ بسند جيد - كما قال الحافظ ابن حجر - عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة:

أنت كنت أَلَزَمَنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمَنا بحديثه.

وفي " الإصابة " عنه أنه قال: أبو هريرة خير مني وأعلم بما يحدث.

وعن طلحة بن عُبيد الله: لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما لم نسمع.

ثالثها: أنه كان جيد الحفظ قوي الذاكرة، وهذه مزية امتاز بها أفراد من الناس كانوا كثيرين في زمن البداوة، وما يقرب منه؛ إذ كانوا يعتمدون على حفظهم، ومما نقله التاريخ لنا عن اليونان أن كثيرين منهم كرهوا بدعة الكتابة عندما ابتدءوا يأخذونها، وقالوا: إن الإنسان يتكل على ما كتب فيضعف حفظه، وإننا نفاخر بحفاظ أمتنا جميع الأمم، وتاريخهم ثابت محفوظ، قال الإمام الشافعيّ: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقال البخاري مثل ذلك، إلا أنه قال: عصره. بدل دهره.

وأعظم من ذلك ما رواه الترمذي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي هريرة: أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه.

رابعها: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بعدم النسيان، كما ثبت في حديث بسط الرداء المتقدم – وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: (ابْسُطْ رِدَاءَكَ. فَبَسَطْهُ. فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ضُمّهُ. قال أبو هريرة: فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ) رواه البخاري (١١٩) - وهو مروي من طرق متعددة في الصحاح والسنن.

خامسها: دعاؤه له بذلك كما ثبت في حديث زيد بن ثابت عالم الصحابة الكبير رضي الله عنه عند النسائي، وهو: (أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت فسأله، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد، ندعو الله ونذكره، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه. قال زيد فدعوت أنا وصاحبي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمّن على دعائنا، ودعا أبو هريرة فقال: إني أسألك

مثل ما سأل صاحباي، وأسألك علمًا لا يُنسى , فقال: سبقكم بها الغلام الدوسي) – قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " (٤/٢٠٨) : إسناده جيد -.

سادسها: أنه تصدى للتحديث عن قصد؛ لأنه كان يحفظ الحديث لأجل أن ينشره، وأكثر الصحابة كانوا ينشرون الحديث عند الحاجة إلى ذكره في حكم أو فتوى أو استدلال، والمتصدي للشيء يكون أشد تذكرًا له، ويذكره بمناسبة وبغير مناسبة؛ لأنه يقصد التعليم لذاته، وهذا السبب لازم للسبب الأول من أسباب كثرة حديثه.

سابعها: أنه كان يحدث بما سمعه وبما رواه عن غيره من الصحابة كما تقدم، فقد ثبت عنه أنه كان يتحرى رواية الحديث عن قدماء الصحابة، فروى عن أبي بكر وعمر، والفضل بن العباس وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد وعائشة، وأبي بصرة الغفاري، أي: أنه صرح بالرواية عن هؤلاء، ومن المقطوع به أن بعض أحاديثه التي لم يصرح فيها باسم صحابي كانت مراسيل؛ لأنها في وقائع كانت قبل إسلامه، ومراسيل الصحابة حجة عند الجمهور.

فمن تدبر هذه الأسباب لم يستغرب كثرة رواية أبي هريرة، ولم ير استنكار أفراد من أهل عصره لها موجبًا للارتياب في عدالته وصدقه؛ إذ علم أن سبب ذلك الاستنكار عدم الوقوف على هذه الأسباب.

على أن جميع ما أخرجه البخاري في صحيحه له (٤٤٦) حديثًا، بعضها من سماعه، وبعضها من روايته عن بعض الصحابة، وهي لو جمعت لأمكن قراءتها في مجلس واحد؛ لأن أكثر الأحاديث النبوية جمل مختصرة.

فهل يستكثر عاقل هذا المقدار على مثل أبي هريرة أو من هو دونه حفظًا، وحرصًا على تحمل الرواية وأدائها؟! " انتهى باختصار.

"مجلة المنار" (١٩/٢٥) .

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>