دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه اللهم اقسم لنا من خشيتك
[السُّؤَالُ]
ـ[ما صحة الحديث: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تُهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث مِنّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) وإن صح الحديث فهل يكون الدعاء جماعياً فيدعو أحد الحاضرين ويؤمن الباقون؟ وهل يكون برفع اليدين؟ وهل نقول بعده كفارة المجلس؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولا:
هذا الدعاء من أعظم الأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها لنفسه ولأصحابه، وعلمها أمته رحمة بهم وشفقة عليهم، إذ لم يترك هذا الدعاء من خيري الدنيا والآخرة أمرا إلا وتضمن أكمل ما فيه وأحسنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ:
(اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا)
رواه الترمذي (رقم/٣٥٠٢) وقال: حسن غريب. وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
ثانيا:
قال المباركفوري رحمه الله:
" قوله (اللهم اقسم لنا) أي: اجعل لنا من خشيتك أي: من خوفك.
(ما) أي: قسماً ونصيباً.
(يحول) أي: يحجب ويمنع.
(بيننا وبين معاصيك) لأن القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء عن المعاصي.
(ومن طاعتك) أي بإعطاء القدرة عليها والتوفيق لها.
(ما تبلغنا) أي: توصلنا أنت.
(به جنتك) أي: مع شمولنا برحمتك، وليست الطاعة وحدها مبلغة.
(ومن اليقين) أي: اليقين بك، وبأن لا مرد لقضائك، وبأنه لا يصيبنا إلا ما كتبته علينا، وبأن ما قدرته لا يخلو عن حكمة ومصلحة، مع ما فيه من مزيد المثوبة.
(ما تهون به) أي: تُسَهِّل أنت بذلك اليقين.
(مصيبات الدنيا) فإن من علم يقيناً أن مصيبات الدنيا مثوبات الأخرى لا يغتم بما أصابه، ولا يحزن بما نابه.
(ومتعنا) من التمتيع، أي: اجعلنا متمتعين ومنتفعين.
(بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا) أي: بأن نستعملها في طاعتك. قال ابن الملك: التمتع بالسمع والبصر إبقاؤهما صحيحين إلى الموت.
(ما أحييتنا) أي: مدة حياتنا.
وإنما خص السمع والبصر بالتمتيع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده إنما تحصل من طريقهما؛ لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات، وذلك بطريق السمع، أو من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس، فذلك بطريق البصر، فسأل التمتيع بهما حذراً من الانخراط في سلك الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.
ولما حصلت المعرفة بالأولين [أي: السمع والبصر] ، وترتب عليها [أي: على المعرفة بالله] العبادة، سأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه، قاله الطيبي.
والمراد بالقوة: قوة سائر الأعضاء والحواس أو جميعها، فيكون تعميماً بعد تخصيص.
(واجعله) أي: المذكور من الأسماع والأبصار والقوة.
(الوارث) أي: الباقي.
(منا) أي: بأن يبقى إلى الموت.
(واجعل ثأرنا) أي: إدراك ثأرنا.
(على من ظلمنا) أي: مقصوراً عليه، ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره فأخذ به غير الجاني كما كان معهوداً في الجاهلية، فنرجع ظالمين بعد أن كنا مظلومين، وأصل الثأر الحقد والغضب، يقال ثأرت القتيل وبالقتيل أي قتلت قاتله.
(ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) أي: لا تصبنا بما ينقص ديننا من اعتقاد السوء، وأكل الحرام، والفترة في العبادة، وغيرها.
(ولا تجعل الدنيا أكبر همنا) أي: لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا، بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفاً في عمل الآخرة، وفيه أن قليلاً من الهم فيما لا بد منه في أمر المعاش مرخص فيه، بل مستحب، بل واجب.
(ولا مبلغ علمنا) أي: غاية علمنا، أي: لا تجعلنا حيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا، بل اجعلنا متفكرين في أحوال الآخرة، متفحصين من العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة، والمبلغ الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده.
(ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) أي: لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة، أو لا تجعل الظالمين علينا حاكمين، فإن الظالم لا يرحم الرعية " انتهى باختصار.
" تحفة الأحوذي " (٩/٤٧٥-٤٧٧)
ثالثا:
أما حكم الدعاء به جماعة فذلك أمر جائز لا بأس فيه؛ وهو ظاهر الرواية في هذا: (قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ) ، ولذلك بوب عليه الإمام النووي في كتابه العظيم " الأذكار " (٢٩٩) بقوله: " باب دعاء الجالس في جمع لنفسه ومن معه " انتهى.
والحديث، وإن لم يكن فيه تصريح بتأمين الناس وراء دعائه، أو رفع أيديهم عنده، فنرجو أن يكون الأمر في ذلك واسعا، وألا يكون فيه حرج، إن شاء الله.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
موقع الإسلام سؤال وجواب