سمعة أهلها سيئة وتريد السفر بعيداً عنهم!!
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا حياتي في البيت لا تطاق، ومن كثرة ما حصل من أهلي - أمي، وأبي - كرهت نفسي وكرهتهم، وأدى بي ذلك إلى عقوقهم، ولا أقدر أن أبرَّهم تحت أي ظرف، وأرجو أن الرد يكون غير المحاولة مرة أخرى، سمعتهم سيئة، فيه طلاق لكن بطريقة لا أقدر أن أقولها، أنا قررت أن أبعد عنهم وأسافر مكاناً أعيش فيه وأشتغل بعيداً عن سمعتهم.
أنا منقبة بسبب المشاكل، المكان يشترط عدم وجود النقاب، ولكن فقط محجبة، أنا قررت أسافر وأعيش بعيداً عن كل هذا، أن أكون محجبة أحسن من أن أكون منقبة قد وصلتْ- والعياذ بالله - للكفر!
بالله عليكم أفيدوني، أنا محتاجة أتكلم مع أي أحد، بالله عليكم حلوا مشكلتي، أنا قربت أن أيأس من رحمة ربنا! أنا لو مت والعياذ بالله خايفة أكون كافرة،لأنكم لا تعرفون ما بداخلي.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا تخلو هذه الدنيا من هموم وغموم، والمسلم يعلم ذلك، بل كل الناس يعلمون ذلك، وكل الناس يعانون من الدنيا نعيمها وبؤسها، رخاءها وشقاءها:
فيومٌ علينا، ويوم لنا ويوما نُساءُ، ويوما نُسرُّ
والفرق بين المؤمن والكافر في ذلك، أن المؤمن يرجو من الله في الشدة والرخاء من الأجر، ما حرم منه الكافر لأجل كفره. قال الله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) النساء/١٠٤
والمؤمن يعلم أن ما يراه في هذه الدنيا من الخير ما هو إلا طرف وبارق منه، وما يراه من الشر في هذه الدار، أيا كان هذا الشر، فهو لفحة من الشر , وطرف منه؛ الخير الحقيقي في الجنة، والشر الحقيقي في النار:
كان شداد بن أوس رضي الله عنه يقول: إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه، ولن تروا من الشر إلا أسبابه؛ الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر، ولكل بنون؛ فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا) صفة الصفوة (١/٧٠٩)
ولأجل هذه الحقيقة، ينسى هذا الخير كله عند أول صبغة لصاحبه في النار، إن كان من أهلها، وينسى هذا الشر كله ـ أيضا ـ عند أول غمسة لصاحبه في الجنة، إن كان من أهلها!!
فتلك حكمة الله تعالى، التي يراها المؤمن فيما يقدره الله تعالى عليه: أن يبتلي عباده بالسراء والضراء: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء/٣٥
إن كلام الإيمان، ودعوى الصدق سهلة على كل أحد؛ لكن بالاختبار، يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق. قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) العنكبوت/٢-٣.
ولذلك فإن المؤمن يختلف عن غيره من الناس عندما يُبتلى بالسراء والضراء، فهو شاكر في السراء، صابر في الضرَّاء، ولا خير في غير ذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) . رواه مسلم (٢٩٩٩) .
ومن أسمائه تعالى التي سمى بها نفسه: (الحكيم) وفي أفعاله من الحكمة ما يعجز العقل عن الوقوف على أسرارها جميعا، وفيما تبين لنا منها ما يُثَبِّت المؤمن على سبيل التصديق، وباب الصبر والثبات. وقد ذكرنا في جواب السؤال رقم: (٣٥٩١٤) بعض الحِكَم والمصالح المترتبة على حصول الابتلاء، فلينظر فهو مهم.
وهناك أمور إذا تأملها من أصيب بمصيبة هانت عليه مصيبته وخفت، وقد ذكر ابن القيم في كتابه " زاد المعاد " (٤ / ١٨٩ – ١٩٥) جملة منها، كنا قد ذكرناها في جواب السؤال رقم: (٧١٢٣٦) فلينظر؛ فهو مهم.
ثانياً:
برُّك لوالديكِ واجب شرعي، ويحرم عقوقهما حتى ولو كانت أخلاقهما، أو معاملتهما سيئة، وحتى لو كان بينهما ما كان، وقد أمر الله بمصاحبتهما بالمعروف، وإن جاهداكِ على الكفر، كما قال تعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لقمان/١٥.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلتهما والإحسان إليهما حتى ولو كانا كافرين، كما قال لأسماء رضي الله عنها وقد جاءت إليها أمها تزورها وهي كافرة لحاجة فقال لها: " صلي أمَّك " كما رواه البخاري (٢٤٧٧) ومسلم (١٠٠٣) .
ثالثاً:
ابتعادكِ عن أهلك وسفرك بمفردك، ليس حلا شرعيا للمشكلة، بل هو نوع من لمعالجة الخاطئة، لوضع غير صحيح؛ كالمتسجير من الرمضاء بالنار.
عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لَا يَخْلونَّ رَجُلٌ بِامْرَأةٍ إِلَاّ وَمَعَها ذُو مَحْرَم، وَلَا تُسَافِر المَرْأةُ إِلَاّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ... )
رواه البخاري (١٧٦٣) ومسلم (١٣٤١) .
فدل هذا الحديث على أن سفر المرأة منفردة، من غير زوج ولا محرم لها، من المحرمات.
ولفظ " السفر " في الحديث عام، وهو شامل للسفر إلى الحج أو العمرة أو طلب العلم، فما تنوين فعله داخل في السفر المنهي عنه في الحديث، فإذا كان السفر إلى بلاد الكفر: فهو أشد حرمة وأعظم خطراً.
رابعاً:
لا يجوز للمرأة أن تتخلى عن حجابها ورمز عفافها وعنوان دينها وحيائها، وطاعة الله تعالى مقدمة على الشهوات والملذات وأمور الدنيا الزائفة.
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله -:
يجب على المرأة أن تحتجب عن الأجانب في الداخل والخارج، لقوله سبحانه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) وهذه الآية الكريمة تعم الوجه وغيره، والوجه هو عنوان المرأة وأعظم زينتها، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) وقال سبحانه: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) الآية.
وهذه الآيات تدل على وجوب الحجاب في الداخل والخارج، وعن المسلمين والكفار.
ولا يجوز لأي امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتساهل في هذا الأمر؛ لما في ذلك من المعصية لله ولرسوله؛ ولأن ذلك يفضي إلى الفتنة بها في الداخل والخارج.
" فتاوى المرأة المسلمة " (١ / ٤٤٦، ٤٤٧) .
خامساً:
لا ينبغي لكِ القنوط من رحمة الله تعالى، فما جاء في سؤالك من كلام يدل على أنكِ قد فقدتِ الثقة بنفسك، وقطعتِ الأمل والرجاء بربك تعالى، وودَّ الشيطان لو ظفر منكِ بهذا أن يدوم ويستمر، فإياك أن تنساقي وراء مكائد الشيطان، وإياك أن تقعي في شرَكِه.
نعم، نقرأ في رسالتك الحزن والأسى على الحال الذي وصل إليه أهلك، وما وصلت إليه سمعتهم التي آذتك، والتي سببت لك التفكير في الرحيل عنهم، لكننا نريد التفكير بروية ودون تعجل خشية أن تقعي فريسةً بين أنياب أهل الشر، وبخاصة إذا علموا حال أهلكِ، ووجودك وحيدة بينهم، لذا فيجب عليكِ التخطيط للخلاص من تلك المشكلات دون الوقوع في المحرَّمات.
ونقترح عليكِ عرض مشكلتكِ على أحد أقربائك العقلاء من المحارم عليك مثل العم أو الخال، ليخلصك من مشكلات البقاء بين أهلك، فالانتقال إلى بيت أحد محارمك هو المقدَّم في حل مشكلتك، إذا كانت الحياة معهم على ما وصفت، ولم يكن هناك أمل في صلاحهم، ويمكن بعدها أن ييسر الله لك زوجاً صالحاً، تسعدين بالعيش معه، ويرزقك الله تعالى منه ذرية طيبة.
ولا مانع من أن يسعى أقرباؤك لتتزوجي من رجلٍ صالح، وهم لو فعلوا ذلك لاستحقوا المدح والثناء، بل لا مانع من أن تسعي أنت، عن طريق من تثقين في عقله ودينه، ونصحه لك، أن يبحث لك عن زوج مناسب، أو يذكرك عند شخص معين تتوسمين فيه الصلاح، وتأملين أن يكون مأمونا عليك.
لكننا على أية حال، لا ننصحك بالسفر وحدك، ولا الانتقال لبيت وحدك، بل ننصحك بالسكن مع أحد أقربائك من المحارم، إن أمكن ذلك، على أن تختاري بيتاً صالحاً يصلح أن تعيشي فيه، فإن لم يتيسر فننصحك بالبحث عن أخوات مستقيمات من الطالبات – مثلاً – وتسكنين معهنَّ، فإن لم يتيسر فابحثي عن أخت صالحة تعيش مع أخواتها أو أمها، يصلح أن تكوني بينهن، والمهم في ذلك كله تجنب العيش وحدك، وتجنب السفر، وخاصة لبلاد الكفر، والحرص على وجود بيئة صالحة ملائمة تصلح أن تحافظي على دينك فيها.
ولا يجوز لك الاستسلام لأوهام الشيطان بأنك من اليائسات أو من القريبات للكفر، فكل ذلك يساهم في كثرة الهموم والغموم.
وتأملي معي ـ أيتها الأخت الصابرة إن شاء الله ـ قول الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) البقرة/٢١٤، فستعلمين أن الأزمة متى اشتدت، ووصلت هزتها أن تكون زلزالا، فإن الفرج بعدها قريب برحمة أرحم الراحمين.
وتأملي قول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) ، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) الطلاق/٤، وقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (يا غلام؛ أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى!! َقَالَ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) رواه أحمد (٢٨٠٠) ، وصححه الألباني.
وأخيراً: نوصيك بالدعاء، مع تحري الأوقات الفاضلة كالثلث الأخير من الليل، وكثرة الدعاء في السجود، وأخلصي في دعائك، وتذللي لربك عز وجل أن يهدي والديك، وأن يصلح شأنهما، وأن يوفقك لما يحب ويرضى.
وانظري ـ أيضا ـ كتاب " علاج الهموم " في قسم الكتب من موقعنا.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب