باب في أحكام الإتلافات
[السُّؤَالُ]
ـ[ما الحكم إذا أتلف شخص مالاً لغيره؟ وهل يختلف الحكم إذا كان بقصد أو بدون قصد؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
إن الله تعالى حرم الاعتداء على أموال الناس وابتزازها بغير حق , وشرع ضمان ما أتلف منها بغير حق , ولو عن طريق الخطأ. فمن أتلف مالاً لغيره , وكان هذا المال محترماً , وأتلفه بغير إذن صاحبه؛ فإنه يجب عليه ضمانه.
قال الإمام الموفق لا نعلم فيه خلافا وسواء في ذلك العمد والسهو والتكليف وعدمه وكذا من تسبب في إتلاف مال كما لو فتح بابا فضاع ما كان مغلقا عليه أو حل وعاء فانساب ما في الوعاء وتلف ضمن ذلك وكذا لو حل رباط دابة أو قيدها فذهبت وضاعت ضمنها وكذا لو ربط دابة بطريق ضيق فنتج عن ذلك أن عثر بها إنسان فتلف أو تضرر ضمنه لأنه قد تعدى بالربط في الطريق وكذا لو أوقف سيارة في الطريق فنتج عن ذلك أن اصطدم بها سيارة أخرى أو شخص فنجم عن ذلك ضرر ضمنه لما رواه الدارقطني وغيره من وقف دابة في سبيل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فوطئت بيد أو رجل فهو ضامن وكذا لو ترك في الطريق طينا أو خشبة أو حجرا أو حفر فيه حفرة فترتب على ذلك تلف المار أو تضرره أو ألقى في الطريق قشر بطيخ ونحوه أو أرسل فيه ماء فانزلق به إنسان فتلف أو تضرر ضمنه فاعل هذه الأشياء في جميع هذه الصور لتعديه بذلك وما أكثر ما يجري التساهل في هذه الأمور في وقتنا وما أكثر ما يحفر في الطريق ويسد وتوضع فيه العراقيل وما أكثر الأضرار الناجمة عن تلك التصرفات دون حسيب أو رقيب حتى إن أحدهم ليستولي على الشارع ويستعمله لأغراضه الخاصة ويضايق المارة ويضر بهم ولا يبالي بما يلحقه من الإثم من جراء ذلك ومن الأمور الموجبة للضمان ما لو اقتنى كلبا عقورا فاعتدى على المارة وعقر أحدا فإنه يضمنه لتعديه باقتناء هذا الكلب وإن حفر بئرا في فنائه لمصلحته ضمن ما تلف بها لأنه يلزمه أن يحفظها بما يمنع ضرر المارة فإذا تركها بدون ذلك فهو متعد وإذا كان له بها بهائم وجب عليه حفظها في الليل من إفساد زروع الناس فإن تركها وأفسدت شيئا ضمنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (قضى أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل مضمون عليهم) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، فلا يضمن صاحب البهيمة ما أتلف بالنهار إلا إن أرسلها صاحبها بقرب ما تتلفه عادة قال الإمام البغوي رحمه الله: " ذهب أهل العلم إلى ما أفسدت بالليل ضمنه مالكها لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي يحفظونها بالليل فمن خالف هذه العادة كان خارجا عن العرف هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها هذا فإن كان معها فعليه ضمان ما أفسدته " انتهى وقد ذكر الله قصة داود وسليمان وحكمهما في ذلك فقال سبحانه: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) , قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " صح بنص القرآن الثناء على سليمان بتفهيم الضمان بالمثل فإن النفش رعي الغنم ليلا وكان ببستان عنب فحكم داود بقيمة المتلف فاعتبر الغنم فوجدها بقر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث وقضى سليمان بالضمان على أصحاب الغنم , وأن يضمنوا ذلك بالمثل , بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان , ولم يضيع عليهم مغله من حيث الإتلاف إلى حين العود , بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك , ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان , فيستوفوا من نماء غنمه نظير ما فاتهم من نماء حرثهم , واعتبر الضمانين فوجدها سواء , وهذا هو العلم الذي خصه الله به أثنى عليه بإدراكه " انتهى.
وإذا كانت البهيمة بيد راكب أو قائد أو سائق؛ ضمن جنايتها بمقدمها؛ كيدها وفمها , لا ما جنت بمؤخرها كرجلها؛ لحديث: (الرجل جبار) وفي رواية أبي هريرة: (رجل العجماء جبار) , والعجماء البهيمة , سميت بذلك لأنها لا تتكلم , وجبار- بضم الجيم -؛ أي: جناية البهائم هدر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل بهيمة عجماء كالبقر والشاة؛ فجناية البهائم غير مضمونة إذا فعلت لنفسها كما لو انفلتت ممن هي في يده وأفسدت؛ فلا ضمان على أحد , ما لم تكن عقوراً , ولا فرط صاحبها في حفظها في الليل أو في أسواق المسلمين ومجامعهم , وكذا قال غير واحد: إنه إنما يكون جباراً إذا كانت منفلتة ذاهبة على وجهها ليس لها قائد أو سائق؛ إلا الضارية) .
وإذا صال عليه آدمي أو بهيمة , ولم يندفع إلا بالقتل , فقتله؛ فلا ضمان عليه؛ لأنه قتله دفاعاً عن نفسه , ودفاعه عن نفسه جائز , فلم يضمن ما ترتب عليه ولأن قتله لدفع شره , ولأنه إذا قتله دفعاً لشره؛ كان الصائل هو القاتل لنفسه.
قال الشيخ تقي الدين: (عليه أن يدفع الصائل عليه , فإن لم يندفع إلا بالقتل؛ كان له ذلك باتفاق الفقهاء) .
ومما لاضمان في إتلافه: آلات اللهو , والصليب , وأواني الخمر , وكتب الضلال والخرافة والخلاعة والمجون؛ لما روى أحمد عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ مدية , ثم خرج إلى أسواق المدينة , وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام , فشققت بحضرته , وأمر أصحابه بذلك) . فدل الحديث على طلب إتلافها وعدم ضمانها , لكن لا بد أن يكون لإتلافها بأمر السلطة ورقابتها؛ ضماناً للمصلحة , ودفعاًُ للمفسدة.
[الْمَصْدَرُ]
من كتاب الملخص الفقهي للشيخ صالح آل فوزان ص ١٣٣