نصراني يسأل عن سبب التحريم القطعي للخمر في الإسلام
[السُّؤَالُ]
ـ[مرحباً.... أنا مسيحي ...
عندما نسأل عن سبب تحريم الخمر في الإسلام يقال لنا إنه يذهب بالعقل. ولكن تناول كأس صغيرة واحدة منه كل بضعة أشهر لن يكون لها أي مفعول ضار , بل يقول بعض العلماء إن القليل منه مفيد للقلب. فلم هذا التحريم القطعي لتناول ولو حتى قطرة؟ فالإنسان يملك العقل ليعرف كيف يسيطر على أفعاله ويتوقف عن الشرب قبل أن يسكر ولماذا اشترط الإسلام على المسلمين الابتعاد عن الخمر ولحم الخنزير ليصلح دينهم ولم يكتف بتبيان مضارهما وترك الخيار للناس؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
نرحّب بك في موقعنا باحثاً عن الحقيقة سائلاً عنها، ونسأل الله تعالى أن تكون إجابتنا وافية، ويظهر لك بعد قراءتها وتأملها بإنصاف وتجرّد حكمة هذه الشريعة الإسلامية وكمالها، مما يجعلك تراجع نفسك وتبحث عن الحق وتتبعه.
ثانياً:
مما تقرر في شريعتنا الإسلامية أنها إنما جاءت لتحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، فما كان نافعاً أو غلب نفعه كان حلالاً، وما كان ضاراً أو غلب ضرره كان حراما، والخمر من القسم الثاني بلا نزاع. قال الله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) البقرة/٢١٩، وأضرار الخمر ومفاسدها مما تواتر علمها عند القاصي والداني، والعالم والجاهل، فمن أضرار الخمر ما ذكره الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) المائدة/٩٠-٩١
ففي هاتين الآيتين أكد الله تعالى تحريم الخمر تأكيداً بليغاً إذ قرنها بالأنصاب والأزلام وهما من مظاهر الشرك الذي كان منتشراً في الجزيرة العربية قبل الإسلام وجعلها من عمل الشيطان، وإنما عمله الفحشاء والمنكر، وأمر باجتنابها، وجعله سبيلا للفلاح، وذكر من أضرارها الدينية: الصدُّ عن الواجبات والفضائل الشرعية من ذكر الله والصلاة.
وقد اشتملت الخمر على أضرار كثيرة استحقت بها أن يقول عنها نبينا – صلى الله عليه وسلم -: " الخمر أم الخبائث " (حديث حسن ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة: ١٨٥٤)
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها وقع على أمه وخالته وعمته " (حديث حسن بشواهده قاله الألباني في السلسلة الصحيحة: ١٨٥٣)
وهذا من أدلة صدق نبيّنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقد وقع ما أخبر به، ألم يأتك نبأ ذلك الشاب الذي رجع بيته سكران فوقع على أمه بعدما أخذ السكِّين وهددها بقتل نفسه إن لم تفعل فأخذتها الشفقة وأجابته، فلما أفاق ودرى بما وقع قتل نفسه.
فانظر بماذا انتهى أمره بعد شرب الخمر، زنىً بأمه وقتلٌ لنفسه! نسأل الله العافية.
بل ذكرت دائرة المعارف البريطانية أن معظم حالات الاعتداء الجنسي على المحارم مثل الأخت أو الأم والبنت وقعت تحت تأثير الخمور.
وأما قول من قال: إن تناول القليل من الخمر مفيد للقلب، فيُقال فيه:
أولاًً: أثبتت البحوث الحديثة أن ما قيل عن فائدة الخمر للقلب، وتوسيعها للشرايين، ليس إلا خطأً كبيراً، فإن الخمر لا توسع الشرايين التاجية المغذية للقلب كما كان موهوماً من قبل، وإنما توسع الأوعية الدموية الموجودة تحت الجلد، في حين أنها تضيق الشرايين التاجية، وذلك بترسيب الدهنيات والكوليسترول في جوفها، وبذلك تساعد على جلطات القلب والذبحة الصدرية، وخاصة مع التدخين، الذي يُساعد على انقباض الشرايين وتضييق مجراها.
وللخمور تأثير على عضلة القلب ذاتها، حيث تصيبها بالتسمم والاعتلال الوظيفي، خاصة بعد تناول البيرة الحاوية على الكوبالت، كما يصاب القلب بالالتهاب نتيجة استنزاف (ف ب ١) أثناء حرق الكحول.
ثانياً: إن هذه الفائدة والمنفعة الموهومة للقلب، يمكن الحصول عليها من غير الخمر التي زاد إثمها وضررها على خيرها ومنفعتها.
ثالثاً: قد قيل ـ أيضاً ـ إن ما يُذكر من منفعة الخمر للقلب، إنما سببها الفواكه والمواد التي اشتقت منها الخمر، مثل العنب والتفاح وغيرها، وعلى هذا يمكن الحصول على هذه المنافع من هذه الأغذية في صورتها التي أحلها الله من غير تخمير لها.
رابعاً: موازنة تلك الفائدة للقلب ـ إن صح أنها كذلك ـ بالمفاسد العظيمة المدمرة لصحة الإنسان، والتي يمكن الوقوف عليها بمراجعة أي مرجع طبِّي يتحدث عن إدمان الكحول، وآثاره المدمِّرة على الإنسان.
انظر مثلاً: " الإدمان الكحولي ": د. نبيل صبحي الطويل، طبعة: مؤسسة الرسالة، بيروت. " أبحاث وأعمال المؤتمر العالمي الثالث والرابع عن الطب الإسلامي ". طبعة: الكويت ١٤٠٥ هـ، ١٤٠٧ هـ.
ولما كان بعض الناس قديماً ـ كبعضهم حديثاً ـ يظن أن في الخمر منفعة جاء طارق بن سويد الجعفي ـ من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يسأله عن الخمر، فنهاه، فقال: أصنعها للدواء. فقال: إنه ليس بدواء، ولكنه داء. رواه مسلم، وهذا من دلائل صدقه ونبوته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
وأما قولك: إن الإنسان يملك العقل ليعرف كيف يسيطر على أفعاله ويتوقف عن الشرب قبل أن يسكر، فهذا قول من لم ينتبه إلى طرق الشيطان اللعين، في إبعاد الناس عن رب العالمين، ثم هو أيضاً قول من لا يعرف ـ أو ربما يتجاهل ـ كيف تبدأ علاقة شارب الخمر بالخمر حتى يصير السِِكِّير سِكِّيراً والمدمن مدمناً.
فأما الشيطان فإنه يتدرج بالعبد من القليل إلى الكثير. ومن الصغير إلى الكبير، ومن المعصية إلى الكفر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً خطوة خطوة، ونقلة نقلة، وإلى ذلك يشير قول رب العالمين في سورة النور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) النور/٢١ وإلى ذلك المعنى يشير الشاعر بقوله:
نظرة فابتسامة، فسلام فكلام فموعد فلقاء
وهذا وإن كان ظاهراً يعرفه كل من يفهم النفوس ومداخل الشيطان إليها فإنه أظهر ما يكون في الخمر وشاربها.
ففي المثل الشرقي: " في البدء يأخذ الإنسان كأساً من الخمر، ... ، ثم تأخذ الكأس الأولى..كأساً ثانية.. ثم تأخذ كأس الخمر الإنسان "
تبدأ القصة بنصيحة من طبيب أو صديق بكأس من الخمر يفتح الشهية للأكل، ويساعد على الشعور بالارتخاء، أو تبدأ بمشاركة الأصدقاء في حفل اجتماعي تدار فيه كؤوس الخمر أو كجزء من الطعام المقدم، أو ... أو ... أو
ثم رويداً رويداً، تتوثق الروابط العضوية والنفسية بالخمر حتى تصبح جزءاً من حياة الإنسان، بل حتى يصبح السِكِّير عبداً لسُكره وخمرته. يطلبها طلب المريض للدواء، كما قال الشاعر:
وكأس شربت على لذّة وكأس تداويت منها بها
لقد وجد في الكأس الأولى منفعة ـ بلا سُكر ـ وراحةً ونشوة، بلا هذيان، فالثانية مثلها، وهو اليوم مشتاق إلى كأس الأمس، ومع تعود الجسم على تقبل هذه السموم الكحولية، يحتاج مرة بعد مرة إلى زيادة جرعة الخمر حتى يجد الراحة والنشوة التي وجدها في الكأس الأولى، ثم يصبح السكير أكثر انتظاماً في تعاطي الكحول، وأكثر نهماً في تجرعه، فلذلك كله كان الضمان الوحيد ضد الإدمان الكحولي هو عدم تعاطي الكحول بالمرة.
ومن أجل ذلك كانت حكمة الشرع الإسلامي في تحريم قليل الخمر وكثيره، فالقليل هو أول الكثير، والقليل مع القليل كثير:
لا تحقرّن صغيرة إن الجبال من الحصا
وأما قولك لماذا اشترط الإسلام على المسلمين الابتعاد عن الخمر ولحم الخنزير ليصلح دينهم، ولم يكتف ببيان مضارهما وترك الخيار للناس؟!
فهو سؤال يحمل مغالطة كبيرة للنفس، وإلا فمن المعلوم أن عقول الناس وعلومهم ليست على حد سواء في إدراك المنافع والمضار، ثم إن قواهم وإرادتهم ليست ـ أيضاً ـ على حد سواء في إلزام النفس باختيار النافع وترك الضار، فلا يمكن أن ينضبط سلوك الفرد والمجتمع إذا ترك الأمر إلى اختيار كل إنسان.
ولو ترك الأمر إلى الاختيار فإن ضرر تعاطي الخمور وآثارها المدمرة لا يقتصر على متعاطيها وحده، حتى يُترك له الأمر يختار في خاصة نفسه ما يشاء، وإنما يصل ضررها إلى كل أفراد مجتمعه، فالأمراض الناجمة عن الإدمان إساءة وإضعاف للمجتمع كله، الذي هو عبارة عن مجموعة من الأفراد ونقصان إنتاجية المدمن بسبب مرضه، ضرر على غيره، والميزانية المستهلكة في علاجه ضرر أيضاً على غيره، ناهيك عن الجرائم الناتجة عن الإدمان، جاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية عن جرائم العنف في ٣٠ دولة من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا، إن ٨٦% من جرائم القتل و ٥٠% من جرائم الاغتصاب، تمت تحت تأثير الخمور.
والإحصائيات حول ذلك في مختلف دول العالم كثيرة وشهيرة.
وأما حوادث السير والطرق فهي أشهر من ذلك، ففي عام ١٩٦٥ـ مثلاً ـ كانت وفيات حوادث الطرق في الولايات المتحدة ٤٩٠٠٠ وفاة، و١.٨٠٠.٠٠٠ إصابة بعاهات دائمة، وقدر المسئولون في الصحة العامة آنذاك أن نصف هذه الوفيات كان سببها الكحول، وكانت الخسارة على هذه الحوادث في ذلك العام (٨٩٠٠) مليون دولار.
وفي تشيكي بأمريكا الجنوبية كان ٧٠% من حوادث السير سنة ١٩٦٦م بسبب السُّكر، وفي باريس وجد أن ١٠إلى ١٥ % من مجموع الحوادث، كان سببها الكحول.
ثم يعترض على السائل أيضاً ويقال:
لماذا لا نبيّن للناس مساوئ السرقة ونترك لهم الخيار، دون إلزام أو عقاب، وهكذا القتل، والرشوة، لماذا، ولماذا، ولماذا ... ؟ حتى يصير المجتمع إلى همجية جامحة، وشريعة الغاب أو الحيوانات.
ثم إن هذا السؤال نفسه يعود إلى جميع النظم والقوانين التي يسير عليها الناس في حياتهم.
إن أساس التفلت من دين الله تعالى ـ المنزل من السماء، والخروج عما شرعه لعباده، هو هذه الفكرة، فكرة أن يُترك الإنسان من غير تكليف بأمر ينفذه، أو نهي يتركه، مع أن الالتزام بالأمر والنهي، واللال والحرام، هو العبودية لله في أبسط معانيها، وهو خالص حق الخالق، بما أنه خالق، وأول واجب على المخلوق، بما أنه مخلوق، قال رب العالمين: (أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) القيامة/٣٦، يعني: أيظنّ الإنسان أن يتركه ربه من غير تكليف، وأمر ونهي، ثم نتيجة ـ لذلك ـ يهمل في قبره، فلا بعث ولا حشر ولا حساب فأين إذن العبودية لرب العالمين، إذا لم يكن هناك أمر ونهي وثواب وعقاب، فبم ندخل الجنة إذن؟!.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب